5 أعوام على الأزمة المالية في أوروبا ولا ضوء في نهاية النفق

5 أعوام على الأزمة المالية في أوروبا ولا ضوء في نهاية النفق

5 أعوام على الأزمة المالية في أوروبا ولا ضوء في نهاية النفق

يعتبر يوم 9 آب (أغسطس) 2007 تاريخا لن ينسى. ففي هذا اليوم بثت وسائل الإعلام الدولية أول أخبار الأزمة المالية العالمية. خمسة أعوام على هذا التدشين والأزمة عنوان دائم في وسائل الإعلام كافة. ربما تحتل العنوان الرئيسي وربما تتراجع لكن يستبعد أن يمر يوم أو اثنان إلا وتجدها حاضرة بقوة في عناوين الأخبار وتعليقات الضيوف حتى لو كان السؤال في السياسة أو الرياضة.
خمسة أعوام ولا أزال أتذكر العنوان الرئيسي في الفقرة الاقتصادية في جميع نشرات الأخبار الصباحية "مصرف بي إن باريبا الفرنسي يرفض سحب المستثمرين لأموالهم" لم يكن الخبر في عرف العاملين في مجال الاقتصاد خبرا عاديا أو معتادا. الخبر كان كفيلا بأن أطلب من زوجتي والأولاد التزام الصمت ورفع صوت التلفزيون لمعرفة التفاصيل. وفي متن للخبر جاء "المصرف يواجه تبخرا كاملا للسيولة" لم يكن الأمر يعني أن المصرف أفلس ولكن كان مؤشرا لا جدال فيه أن المصارف ترفض التعامل مع بعضها البعض وبتعبير أدق ترفض إقراض بعضها البعض ومن ثم لن يكون هناك إقراض للمستثمرين الراغبين في الاستثمار. إذا كان الخبر يعني أن جوهر النظام المصرفي وهو الإقراض وسيلته الأساسية للنمو وجذب باقي قطاعات الاقتصاد قد أصيب بالشلل. كان التساؤل ما السبب وما العمل؟ السبب باختصار كان ما جرى تسميته لاحقا بالأصول السامة في ميزانية المصارف وهي باختصار أصول فقدت قيمتها ولن تعيد للمصرف المردود المالي المتوقع منها.
بنهاية اليوم كان خبر آخر يحتل الصدارة وبما يؤكد أننا أمام بداية أزمة مالية حقيقية. مؤشر داو جونز يتراجع بشدة بعد قيام تسعة مصارف أوروبية مركزية بتقديم تمويل طارئ لأسواق الائتمان. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها هذا القرار منذ أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر). كانت الخطوة الأوروبية محاولة لوقف الأضرار الناجمة عن تراجع أسواق الرهن العقاري الأمريكية.
بدا الجميع مدركا أننا أمام أزمة اقتصادية لكن لم يكن أحد يدرك بعد حجمها أو مداها أما ما العمل للفكاك منها فإن الإجابة ببساطة لا أحد يعرف.
لأيام كانت هذه الأخبار هي محور الحديث بين الإعلاميين في النادي الصحافي للمراسلين الأجانب في لندن. المتفائلون يؤكدون أن الأمر سيتم تطويقه وأن النظام الرأسمالي قد نضج ولن يواجه أزمات تعيده إلى أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات. المتشائمون وهم أقلية فاعتقادهم أن الأمر يوحي بأن هناك أزمة أوروبية على الطريق أما حجمها ومداها فلا يعلمه إلا الله. لكن أكثرنا تشاؤما فلم يتوقع أن تنتقل العدوى للندن سريعا فبعد نحو شهر من أنباء عجز مصرف "بي إن باريبا" عن الإقراض كانت العدوى تضرب شواطئ الجزر البريطانية. الخبر الأول في نشرة الأخبار المحلية في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في صباح 14 أيلول (سبتمبر) 2007 كان "مصرف إنجلترا يمنح قرضا طارئا لأحد المصارف" في متن الخبر لم تحدد قيمة القرض أو اسم المصرف. قبل أن أصل لعملي كانت "بي بي سي" تبث تقريرا آخر عن طوابير طويلة لمئات المواطنين احتشدوا أمام مصرف نورثن روك لسحب أموالهم. مشهد غير مسبوق في الذاكرة البريطانية لم يحدث منذ قرن. بنهاية اليوم بلغ حجم المسحوبات المالية من المصرف مليار استرليني. اليوم التالي كان عنوان الأخبار "مصرف إنجلترا (وهو المصرف المركزي البريطاني) يضخ عشرة مليارات استرليني في الأسواق"، أدرك الجميع أن الأزمة حقيقة واقعة بيننا وتغير الخطاب الإعلامي من كيف نمنع وصول الأزمة إلينا الى كيف نتصدى لها.
الجميع كان يصارع الزمن في مسعى لتطويق الأزمة المالية وعدم استفحالها. بحلول كانون الأول (ديسمبر) 2007 كان العالم يسمع كل صباح بأرقام فلكية تضخ يوميا من قبل المصارف المركزية الأوروبية في الأسواق لمنع مزيد من الانهيار. وعلق محافظ المصرف المركزي السويسري في حينها توماس جوردن على الوضع بالقول "إن الاضطرابات التي لوحظت في أسواق المال العالمية في الأشهر القليلة الماضية لم تشهدها في تاريخها من قبل. إن أزمة الرهن العقاري قد أصابت العصب الحيوي للنظام المالي الدولي.
العصب الحيوي الذي تحدث عنه جوردن كان قطاع المصارف. كان الانهيار تتبلور ملامحه في هذا القطاع بشكل واضح يوما بعد آخر، فبحلول آذار (مارس) 2008 كانت مؤسسة جي بي مورجن الدولية لإدارة الأصول تشتري المصرف الاستثماري "بير ستيرنز" بـ 240 مليون دولار فقط بعد أن كانت قيمته قبل عام نحو 18 مليار دولار. لم تكن صفقة رابحة لـ "جي بي مورجن" بقدر ما كانت مؤشرا على حجم الانهيار في القطاع المصرفي.
ربما يدخل شهر أيلول (سبتمبر) التاريخ الأمريكي باعتباره شهر المصائب الكبرى. فأحداث 11 من أيلول (سبتمبر) دشنت بداية ما أطلقت عليه واشنطن الحملة الدولية على الإرهاب بكل تداعياتها العالمية وفيه أيضا أعلن مصرف ليمان براذرز إفلاسه ليدشن الإعلان الدولي للأزمة العالمية. وعلق امبروز ايفان رئيس تحرير القسم الاقتصادي في صحيفة "تليجراف" البريطانية على خبر الإفلاس بالقول "يمكن أن نلوم ليمان براذرز على الإفراط في الإقراض وهو ما أدى لإفلاسه وانهياره، لكن جذور الأزمة تكمن في السياسات الحكومية للبلدان الغربية. فسعر الفائدة على القروض منخفض للغاية في العقدين الماضيين وهذا شجع على الاستدانة لمعدلات غير مسبوقة. والنتيجة هي انفجار الوضع وسيدفع الثمن ملايين الأشخاص في أوروبا وأمريكا الذين سيخسرون وظائفهم خلال العامين المقبلين على ذنب لم يقترفونه".

السعودية.. طوق نجاة
مع تواصل الأزمة ضغطها على كل البلدان الصناعية المتقدمة عقدت القمة الثانية لمجموعة العشرين في لندن في أيار (مايو) 2009. خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز كان حاضرا في القمة. وبعيدا عن كل الديباجات الصحافية وآلاف الأوراق التي وزعت في القمة حول جدول الأعمال الذي سيناقش عشرات من النقاط، كان الواقع يشير إلى أنها قمة بعنوان "الأزمة الاقتصادية.. البحث عن مخرج". السعودية كانت حاضرة بقوة في هذه القمة لكنها لم تحضر فقط من باب النفط والاحتياطيات المالية الضخمة لديها المقدرة بتريليون دولار ولكنها حضرت أيضا من باب تصنيف حجم الاقتصاد السعودي باعتباره في المركز الـ 18 على مستوى العالم. السعودية قدمت للقمة ما كان العالم الصناعي يريد أن يسمعه ليضمن أن الأزمة لن تزداد سوءا "سنضمن استقرار السوق البترولية" كان هذا الموقف كفيلا بأن يتنفس الآخرون الصعداء. فبذلك ضمنت لهم الرياض أنها ستكبح جماح الأزمة العالمية حتى يجد المسؤولون عن تفجيرها حلولا لها.

خطة الإنقاذ البريطانية
على هامش قمة حول غزة عقدت في منتجع شرم الشيخ في 18 كانون الثاني (يناير) 2009 أعلن رئيس وزراء بريطانيا السابق جوردن براون خطته لإنقاذ الوضع الآخذ في التدهور. كان شعار خطته "إنقاذ المصارف ينقذنا". وإنقاذ المصارف يتطلب إعادة القوة لها للإقراض مجددا ليتمكن المستثمرون من الاستثمار وعودة الدوران مرة أخرى للعجلة الاقتصادية المتوقفة. الحل كما تبنته حكومة حزب العمال البريطاني اعتمد على برنامج حكومي ضخم تضمن بموجبه الدولة الأصول المصرفية المتعثرة. التخلص من تلك الأصول المتعثرة مثل تحطيم القيود التي تعيق المصارف من الانطلاق مجددا لكنه كان يعني استخدام أموال دافعي الضرائب لشراء هذه الأصول المتعثرة. خطوة أثارت حفيظة الرأي العام ضد رؤساء مجالس المصارف الذين واصل بعضهم الحصول على مكافآت مالية لنهاية الخدمة تقدر بالملايين رغم الخسائر المالية الضخمة للمصارف التي يديرونها. لكن الحكومة تعهدت بشراء حصص من تلك المصارف المتعثرة بما يمكنها من التدخل المباشر فيها. وهو ما قوبل بمعارضة الرافضين لتدخل الدولة في اقتصادات السوق بدعوى قدرة النظام الرأسمالي على تصحيح أخطائه بذاته دون تدخل الدولة، لكن هذه الأصوات لم تصمد طويلا أمام رأي عام أراد أن تتدخل الدولة بقوة اعتقادا منه أن ذلك سيعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. صبيحة اليوم التالي كانت واشنطن تعلن تبنيها الخطة نفسها وشراء حصص مصرفية بـ 250 مليار دولار.
رغم كل المليارات التي ضخت في الأسواق ومحاولات الإنقاذ ظل قطار الأزمة يسير دون توقف ودون أن يفلح أحد في كبح جماح مسيرته. الأسبوع الأول من آذار (مارس) 2009 اتخذ مصرف إنجلترا قراره بطبع 75 مليار استرليني، أربعة أيام وكان مؤشر الأسواق المالية البريطانية يهبط لأدنى مستوى منذ ستة أعوام. وبدا الأمر وكأن علم الاقتصاد والاقتصادين ورجال المال والسياسيين عاجزون عن إيجاد حل للأزمة المستفحلة.
اليونان تغرق
بحلول كانون الثاني (يناير) 2009 كان الجزء الأكبر من الاتحاد الأوروبي تعصف به الأزمة الاقتصادية بشدة. اليونان كانت هي الحلقة الأضعف حيث بدا المجتمع وكأنه يصارع ليس من أجل الفكاك من الأزمة بل من أن يضمن عدم تفككه. كانت التساؤلات تتصاعد في أوروبا حول قدرة أثينا على الحفاظ على سيادتها في ظل تلك الأزمة. البداية حزمة مساعدات بـ 30 مليار دولار اكتشف الجميع أنها لا تسمن ولا تغني من جوع. دفعة أخرى من المساعدات بـ 110 مليارات دولار وإجراءات تقشفية غير مسبوقة ومع هذا لم تفلح اليونان في الخروج من أزمتها، عام آخر وكانت اليونان تحصل على مساعدات بقيمة 155 مليار دولار، وما زالت الأزمة مستمرة. أصبح الحديث الصحافي لوسائل الإعلام لماذا يجب أن تبقى اليونان معنا في الاتحاد الأوروبي؟ فلتخرج وتغرق وحيدة؟ لماذا علينا جميعا أن نغرق معها؟ أحفاد الأغريق مضغوا على مضض ما اعتبروه إهانة وطنية من قبل أوروبا لهم لكن لم يكن باليد حيلة.. وافقوا على الشروط الألمانية بمزيد من التقشف وبيع أصول القطاع العام إذا أرادوا الحصول على المساعدات. عدوى اليونان امتدت سريعا لإيرلندا والبرتغال وإن كانت بأقل حدة. الخوف من اتساع نطاقها وتعمقها داخل منطقة اليورو دفع الاتحاد الأوروبي لتشكيل صندوق دائم للإنقاذ.
الآن وفي العام الخامس للأزمة وبدلا من أن يضع محافظو المصارف المركزية أيديهم في جيوبهم للتعرف على ما تبقى معهم من أموال بعد كل عمليات الإنقاذ التي ضخوا خلالها المليارات ها هم يضعون الآن أيديهم على قلوبهم خشية أن تضرب الأزمة إسبانيا بالقوة ذاتها التي عصفت باليونان. فالنظام المصرفي الإسباني تعرض لخسائر بالمليارات وعلى الرغم من إسراع أوروبا إلى دعم مدريد بالمليارات لتجنب مصير أثينا فإن الأسواق لم تعد لها بعد الثقة الكاملة بأن إسبانيا قد تعدت مرحلة الخطر. فسقوط إسبانيا يعني عمليا أن اليورو كعملة سينتقل من عالم التداول إلى عالم محبي اقتناء العملات التذكارية، وسيكون ذلك إيذانا بتفكك الاتحاد الأوروبي.

الأكثر قراءة