بطولة عالمية .. فوق مباني متهالكة

بطولة عالمية .. فوق مباني متهالكة

صديقي الإنجليزي "مارتن يول" كان كثير التذمر من المنطقة التي كنا نسكنها في شرق لندن عام 2003 وذلك لأنها على مقربه من مجمع للورش والمباني المتهالكة وبعض المصانع المهجورة. وكان "مارتن" يتأفف كلما مررنا من تلك الورش لإصلاح سيارته، حيث كان يصف تلك المنطقة بأكملها أنها أشبه بمدن الدول النامية في العالم الثالث المتخلف.

ولكن بعد اتصال هاتفي جرى بيني وبينه، عقب فوز لندن تنظيم أولمبياد 2012، سألته، هل لازلت تتمنى زوال تلك المنطقة من خريطة بلادك وهي سبب تأهلكم لتنظيم الأولمبياد؟ فعدّد لي مارتن مستقبل المنطقة التي تبلغ مساحتها 500 هكتار (أي ما يعادل مساحة 357 ملعب كرة قدم). فالحكومة البريطانية قررت هدم كل الورش وكافة المباني في تلك المنطقة، وهي قرابة 200 مبنى متهالك من أجل بناء القرية الأولمبية.

كما سيتم تطبيق أعلى معايير الاستدامة والحفاظ على البيئة عند تطوير المنطقة، فعلى سبيل المثال سيتم الاستفادة من 90% من الحديد ومواد المباني القديمة التي ستهدم وإعادة تدويرها واستخدامها مره أخرى في بناء مباني القرية الأولمبية كما سيتم توفير 20% من الطاقة التي تحتاجها القرية الأولمبية من داخل القرية ومن مصادر متجددة للطاقة. وهذه مؤشرات تدعو للتفاؤل بالنسبة لصديقي "مارتن" كونه لن يرى تلك المباني المتهالكة التي ستحل محلها قرية الأولمبياد.

استضافة الأولمبياد حلم تسعى له كل الدول، لما له من عوائد اقتصادية، وفوائد ثقافية وسياحية وإجتماعية كبيرة جداً، ففعاليات البطولة التي يشارك فيها قرابة 14,700 رياضي للمنافسة على 46 رياضة مختلفة. ولا يوجد أي نشاط في العالم يستطيع أن يحرك اقتصاد دولة بكاملها ويدر عليها خلال أسبوعين، مثلما ستفعل هذه البطولة، فأعداد السائحين، مبالغ الصرف، عقود الرعاية، نسبة إشغال الفنادق، رحلات الطيران، عقود التوريد، توفير الوظائف وغيرها، تشهد أرقام قياسية لم يسبق لها مثيل في لندن.

حيث تشير الدراسات أن عدد الزوار سيصل لنصف مليون زائر يومياً، ونسبة إشغال الفنادق وكافة أنواع السكن للزوار محجوزة بالكامل خلال فترة الأولمبياد علماً أن تكلفة الليلة الواحدة ارتفعت لأربعة أضعاف سعرها الطبيعي. ومن المتوقع أن تباع 7.6 مليون تذكرة لحضور الفعاليات. وأن هذا العدد الكبير من المشاركين والزوار والحضور والمنظمين والعاملين، سيجعلهم يستهلكون قرابة 14 مليون وجبة غذائية، و 330 طن من الفواكه والخضروات، و 232 طن من البطاطس، و 100 طن من اللحوم، و 82 طن من الأسماك، و 21 طن من الأجبان، و 19 طن من البيض، و 75 ألف لتر من الحليب.

كما تشير دراسة أخرى لبنك للويدز Lloyds أن استضافة الألعاب الأولمبية من المتوقع أن تضيف 10 مليار جنية إسترليني للاقتصاد البريطاني بحد أدنى.

ولكن يجب معرفة أن هذا التنظيم يتطلب ميزانيات ضخمة وقابلة للزيادة في أي وقت - وهو ما حدث فعلا - ففي عام 2005 اعتمدت الحكومة البريطانية ميزانية شاملة للمشروع قدرها 2‪.‬4 مليار جنيه استرليني، ولكن وزيرة الأولمبياد "دامي جويل" أعلنت لمجلس العموم عام 2007 أن التكلفة سوف ترتفع لتصل إلى 9 مليار جنيه على أقل تقدير.

فالملعب الرئيسي للأولمبياد والذي يتسع لعدد 80,000 مقعد، كان معتمدا له مبلغ 280 مليون جنية إسترليني، ولكن وصلت تكلفة بناءة الفعليه إلى 486 مليون جنية إسترليني (أي ما يعادل 760 مليون دولار) وبارتفاع قدره 42% عن المعتمد في الميزانية؛ وذلك بسبب التضخم والضرائب. وهي تكلفة تكلفه مرتفعه جداً إذا ما قارنا ذلك بملعب سيدني الأولمبي والذي كلف قرابة 402 مليون دولار ويتسع لقرابة 110,000 مقعد.

والمركز المائي والذي يضم المسبح الأولمبي ويستوعب 22,500 معقد، كذلك لنفس الأسباب ارتفعت تكلفته من 74 مليون إلى 269 مليون جنية إسترليني.

هذا التنظيم الضخم لن يكون عائقاً أمام الإنجليز، فمن عاش بينهم يعرف جيداً أنهم شعب يخطط وينفذ ثم يستثمر بإمتياز، كيف لا و 17% من الناتج القومي المحلي لبريطانيا يأتي من لندن، وهو مساوٍ لكامل الدخول القومي لدولة مثل السويد أو بلجيكا. فيما يعتبر الاقتصاديين الإنجليز من أقوى وأدهى الاقتصاديين في العالم، وهو ما نراه بوضوح من خلال بورصة لندن (London Stock Exchange) التي تعتبر أكبر بورصة في العالم، بواقع 2900 شركة مدرجة بلغت قيمتها الإجمالية 2,3 تريليون جنية استرليني، وتبلغ تعاملاتها 32٪ من المعاملات المالية في العالم.

بعد سرد هذه الأرقام قمت بالاتصال بصديقي "مارتن" منذ يومين لمعرفة رأيه فيما حدث في هذه المنطقة التي كانت منبوذة بالنسبة له وكيف أصبحت اليوم بعد سبع سنوات من العمل. ولم يخفي مارتن سعادته وقلقة بنفس الوقت، فهو سعيد لأن المنطقة أصبحت كالعروس في ليلة زفافها - حسب وصفه - ولكنه قلق على مصير هذه المنشآت وبالأخص الملعب الرئيسي بعد الأولمبياد.

فهو من كبار مشجعي نادي "ويست هام يونايتد" النادي الذي فاز بحق إدارة الملعب واللعب عليه بعد انتهاء الأولمبياد، ولكن لاعتراض نادي "توتنهام" على عملية الاختيار والتشكيك فيها، وأيضاًً نادي "ليتون آورينت" القريب جداً من الملعب الأولمبي والذي أشتكى أن النادي سوف يفلس في حال قدوم نادي "ويست هام يونايتد" للمنطقة، فقد تم نقض الحكم وتحديد موعد جديد للنظر في القضية بعد الأولمبياد لاختيار النادي الذي سوف يستخدم الملعب بعد الانتهاء من الألعاب الصيفية.

بغض النظر عن من سوف يستخدم الملعب بعد الأولمبياد، الشيء الأكيد أن استضافة الأولمبياد وتطوير المنطقة القديمة بهذا الشكل المذهل من الأشياء التي سوف يفتخر بها الإنجليز لمده طويلة ويجب أن تدرس وتصدر ليستفاد منها في دولنا.

الأكثر قراءة