Author

العمل الحر هو المسار العملي للتوطين

|
في تقديري أن أحد أهم الأسباب الرئيسة وراء تعثر برامج السعودة واستمرار معضلة البطالة هو اختلال المفاهيم المتعلقة بالعمل والتوظيف لدينا. ذلك الاختلال الذي أسهم في اعتلال التوجهات والسياسات، وبالتالي الحلول المطروحة للقضاء على البطالة من جانب والآليات التنفيذية من جانب آخر. فقد بنيت برامج التوطين ولعدة عقود من الزمن على مفهوم السعودة والوظيفة، وكأن الوظيفة هي الغاية والأمل والهدف لكل من الحكومة والآباء والأبناء. ومن ثم تم إسقاط مفهوم السعودة على ذلك وأصبح الشباب ومن ورائهم الآباء يبنون تربيتهم ويعقدون تطلعاتهم على الوظيفة. واندثر مفهوم العمل في زحمة هذا التوجه وتلاشت معانيه ونسينا أن العمل والعمل ذاته هو الفيصل والغاية وليست الوظيفة. ومن المعلوم أن العمل والوظيفة لفظان مختلفان اختلافا جذريا عن بعضهما البعض من حيث المفهوم والدلالة اختلافا في اللفظ والمعنى وفي الهدف والغاية. وهذا الخلل في المفاهيم قادنا إلى أن نركز جهودنا آباء وأبناء ومجتمعا وحكومة على الوظيفة والتوظيف والسعودة. وهي مفاهيم لم تحقق تطلعات كل من الحكومة والمجتمع في إيجاد حلول عملية للبطالة ولتشغيل القوى العاملة السعودية على مدى عدة عقود. وكمجتمع وأفراد، انصب عملنا على توجيه أبنائنا وتربيتهم وتعليمهم في ضوء محيط الوظيفة بمفهومها الضيق وكأن الهدف من التعليم والتربية هو الوظيفة لا التمكين والتهيئة للعمل بمفهومه الواسع. ونسينا أن مفهوم ومحيط العمل أكبر من الوظيفة بمفهومها الضيق. وكحكومة ركزنا برامجنا على توجيه القطاع العام وقطاع الأعمال لتبني برامج السعودة أي توظيف السعوديين. ومع إننا عملنا في هذا الاتجاه حكومة ومجتمعا على مدى أكثر من ربع قرن إلا أننا لم نستطع تحقيق الهدف الأساسي وهو القضاء على البطالة. الأمر الذي يدعونا إلى وضع علامات استفهام على هذا التوجه بما فيه من سياسات وآليات ومراجعاتها. والواضح أن لدينا خللا في المفهوم وفي الآلية، وإلا ما معنى أن لدينا بطالة في اقتصاد هو الأقوى في المنطقة ومن أكبر 20 اقتصادا في العالم في الوقت الذي لا يزيد فيه سكاننا على 17 مليون نسمة أي أقل عددا من سكان مدينة مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك. وما معنى إلا يجد أبناؤنا عملا في ظل وجود أكثر من ثمانية ملايين وافد. في تقديري أن العلة الأساسية تعود إلى خطئنا في المفهوم الذي أفضى لخطئنا في الآلية، حيث إن الأصل والغاية هو العمل بمفهومه الواسع وليس الوظيفة. وبطبيعة الحال فإن الوظائف المتوافرة "بالمفهوم الضيق للوظيفة" قليلة جدا مقارنة بالأعمال المتوافرة في اقتصادنا وفي نطاق العمل بمفهومه العام. ومن المؤسف أننا لم نبذل أي جهد يذكر لترسيخ مفهوم وقيمة العمل الحر وعوائده المادية والمعنوية لدى جيل الشباب. وبدلا من ذلك تم تهيئة البيئة التجارية لتمكين الوافدين من مزاولة العمل الحر بجميع قطاعاته وعلى مستوى الأنشطة كافة. وأصبح صاحب البيت (المواطن) يبحث عن (وظيفة) متواضعة ربما عند ذلك الوافد الذي جاء وفي ذهنه ممارسة العمل الحر. وفي واقع الأمر فإن اقتصادنا يضم ميدانين، ميدان الوظائف وميدان الأعمال الحرة. الأول وهو الميدان الضيق المحدود يتنافس فيه السعوديون بينهم وبين بعض وبينهم وبين مجموعة من الوافدين والثاني أعني ميدان الأعمال هو الأكبر فهو متاح فقط للوافدين يصولون فيه ويجولون (قطاع التجزئة خير مثال) حتى بلغت تحويلاتهم السنوية أكثر من 100 مليار دولار وقاموا بتأسيس شركات عملاقة محلية وإقليمية ودولية في مختلف القطاعات الاقتصادية. في الوقت الذي ما زال يبحث فيه شباب الوطن عن (وظيفة). في مقال سابق أشرت فيه إلى أن قطاع التجزئة وحده يوفر مليونا و800 ألف وظيفة أي أن ثلث القطاع فقط كفيل بتشغيل جميع السعوديين والسعوديات العاطلين عن العمل. وما زلنا نتحدث عن السعودة والتوظيف... إلخ. في اعتقادي أنه حان الوقت لإعادة هيكلة مفهوم وآلية تشغيل القوى الوطنية للوصول إلى منهج يقوم على ترسيخ مفهوم العمل الحر ووضع النظم الكفيلة بتهيئة البيئة النظامية والتشريعية لتأكيد هذا الاتجاه وتمكين الشباب من الاستفادة والإفادة من المقدرات الاقتصادية الوطنية بشكل يضيف قيمة اقتصادية على المستوى الكلي ويمكن الجيل الجديد من الحصول على لقمة العيش الشريفة. وحتى لا أتهم بالتنظير فإنني سأنتقل من التحليل إلى طرح حل عملي يسهم في ترسيخ هذا المفهوم ومعالجة أكبر مهدد وطني، أعني البطالة. المبادرة المطروحة تقوم على تأسيس برنامج وطني متكامل تحت عنوان "برنامج العمل الحر" يقوم على ثلاثة محاور: 1- تهيئة البيئة التشريعية والتنظيمية بما يكفل قصر الأعمال التجارية على السعوديين خلال مدة لا تزيد عن خمس سنوات. 2- صياغة آلية عملية لتمكين الشباب تتضمن مسارات التمويل والتدريب والتأهيل... إلخ. 3- توعية المجتمع بأهمية العمل الحر وغرس روح المبادرة في الشباب. وأخيرا أود التأكيد على أن الأرقام والحقائق والمعطيات الاقتصادية في وطننا الغالي تؤكد أن بيئة العمل لدينا تتضمن فرصا عملية مناسبة للسعوديين تستوعب أربعة إلى خمسة أضعاف العاطلين عن العمل. وكل ما علينا أن نقوم به هو مراجعة التوجهات والسياسات والآليات التي تقوم عليها برامج التوظيف الحالية.
إنشرها