حَرف

حَرف

أتراجع، ثم أتراجع, وأعود. ويعود مع الصمت هيبة ووقار, ثم لا ألبث أن أشتاق و أمضي. فتتعالى الأصوات ويكثر الضجيج وأتوه بينهم, أخترق صفوفهم، وتمتزج نبضات قلبي المتسارعة مع كلماتهم المتراشقة، فيصدر منها نغمٌ متناسق لذيذ. إنها حلبة الصراع، وميدان القتال، حيث التهم لمن لاتهمة له، حيث الظنون أولاً والحق ثانياً. إنها حلقة تتسع كلما علا صوتهم، وكلما أخرس لسان أحدهم بالقوة.! لاتكاد كلماتنا ترتخي عن شدّ بعضها البعض من أجل أن تقف سلاحاً شاتماً أو مهيناً في وجه من كان حتى تنتصر لصاحبها. كلماتنا التي خلقناها ولم تنزّل علينا، كلماتنا التي استفزها غضب أو جهالة أو اندفاع. إنك تلحظ صورة الصراع هذه في أي مساحة رأي يجتمع عليها الناس،وكأنهم يرمون كل شيء خلفهم ،ويدخلونها مسلحين بالكلمات، فلا الأخ يعرف أخاه ولا الجار يعرف جاره. لقد أنسانا الحرف الخُلق، الحرف فتنةٌ أصبناها لم تُصبنا! يكاد المرء يحمله في يديه مدافعاً عن نفسه فيعود وقد ظلم نفسه. تبدأ هذه الصراعات من وسط منزل عتيق في آخر الشارع، ولا تنتهِ عند موقع تواصل اجتمع فيه الناس، ليتواجهوا ويستعجلوا يوم الحساب بصورةٍ اخترعوها لأنفسهم. أحقاً هذا البريء اتهم هذا؟ وهذه المسالمة شتمت صاحب شأنٍ فيكون لها شأناً ؟ أحقاً وقف هذا المتدثر بجلباب شهرته يقذف أحرفاً مسلحةً في وجوه الناس، دون اعتبار للأثر ،غروراً بجلبابه؟ نعم يحصل هذا في كل يوم وكل لحظة نتواجه بها لأجل أن ننتصر أو نعود بالثأر. التفافنا خلف قضايا الألسن أشغلنا عن همومنا ومشكلاتنا الفعلية، فأصبح الواحد منا لايدرك حقيقة القضية إلا حين تصل إلى مرحلة لا يجدر بنا غير التباكي أو تسابق الأسباب والمسببات. لم يشغلنا بهذه الصراعات أحدٌ متعمدٌ أو متآمر، لقد اندمجنا نحن بفعل فاعلٍ لا يقصد بنا شراً، اندمجنا داخل ساحة متسعة المكان ومتسارعة الزمان، فلم تعد عقارب الساعة تشير إلى شيء، فقط كلماتنا تتمتع بالإشارة. إذا قيل لك أن من الداء يُصنع الدواء، فالحلم يغلب الغضب، والحكمة تتفوق على الاندفاع، والأمل يتفوق على اليأس. و كما كان الجرح حرفاً فليكن الضماد حرفاً آخراً.
إنشرها

أضف تعليق