Author

وانقلب القطار

|
أتحدى أن يجد أي باحث في أي دولة في العالم كم المشاكل التي تعانيها المؤسسة العامة للسكك الحديدية. أتحدى أن يوجد في أي دولة في العالم مهما بلغ حجم الفساد فيها مؤسسة عامة مهمتها الوحيدة إدارة سكة قطار يتيمة مسافتها لا تتجاوز 400 كيلو متر ولمدة تجاوزت 60 سنة، ومع ذلك كانت عنواناً للفشل. أتحدى أن يجد أي باحث في أي دولة في العالم مؤسسة عامة تقوم بمهمة محددة، وهي إدارة خط قطار، ومع ذلك تفشل في شراء قطارات لأداء مهمتها. أتحدى أن يجد أي باحث في العالم مؤسسة عامة تدير خطا وحيدا بعمالة تصل إلى 1200 موظف. وأتحدى أن تجد مؤسسة عامة في المملكة لا يتحدث مسؤولوها عن '' التخدير'' آسف أقصد التخصيص. مؤشرات وصرخات ومحاولات تنبيه لم تصل إلى المسؤول لسبب بسيط وهو تجذُّر البيروقراطية وانعدام الاتصال بالعالم الخارجي. بذلت الصحافة والإذاعة والتلفزيون جهوداً كبيرة للفت نظر هذه المؤسسة البيروقراطية العتيدة إلى وجود أمور تحتاج إلى التصحيح، لكن دون أن تجد أذناً صاغية أو عيناً مبصرة أو عقولاً واعية. كنت أعتقد أن نظريات انفصال المنظومة عن الواقع الذي تعيش داخله، هو كلام مبالغ فيه، لكن مؤسساتنا العتيدة، ومنها مؤسسة السكك الحديدية، يثبتون يوماً بعد الآخر أنهم أفضل مثال لـ ''الانفصال'' عن الواقع. وإحدى علامات الفصام تجيير المسؤولية عن الأخطاء، ومثاله هنا تبرير الحادث بسرقة قضبان السكة! كنت أقرأ - في أمان الله – عندما وصلتني رسالة عبر الجوال تنقل خبر انقلاب القطار، وبصراحة لم أصدق. يمكن أن تنقلب سيارة أو شاحنة أو حتى دولة، لكن أن ينقلب قطار فذاك لعمري هو العجب بعينه. لكنه كما تندر أحد المغردين كان لسبب قوي، فقد قيل للقطار إنه ستكون هناك شبكة مترو في الرياض، وسيتم إنشاء خط سكك حديدية سريع يربط شرق المملكة بغربها، فانقلب القطار على ظهره من شدة الضحك. اشتكت هيئة مكافحة الفساد من عقود هذه المؤسسة، واشتكى المواطنون من أدائها، واشتكى الركاب من تعطلها وحوادثها وتغيير مواعيدها واستمرت هذه المؤسسة وكأن كل هذا يحدث في عالم آخر، كان رئيس المؤسسة في الكويت عندما تصادم قطاران. حاولت الصحافة أن تتحدث إليه، لكنه لم يكلِّف نفسه حتى عناء إلغاء انتدابه، فليذهب الركاب إلى حيث يعالجون أو يدفنون، الحادث وقع ولا حيلة له في دفع البلاء بعد حدوثه. لن أكرر على القارئ ما فعله وزير النقل المصري نتيجة حادث قطار الصعيد، ولن أعود لذكر الأفكار التي نشرتها في مقالي عن ثقافة الاستقالة وحاجتنا إليها، لأن الضرب في المؤسسة حرام. أعتقد أن الدولة كانت تعي أن هذه المؤسسة غير فاعلة فأوكلت عمليات تنفيذ المشاريع الجديدة لجهات أخرى، فقطار المشاعر يرتبط بجهة - رغم عيوبه - وقطار الحرمين بجهة أخرى، وقطار الشمال الجنوب لجهة ثالثة أو قد تكون الجهة نفسها وأنشئت الشركة السعودية للسكك الحديدية (سار)، وتولت الهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض مترو الرياض. هذا يعني ضمناً أن الدولة غير واثقة في قدرة المؤسسة على إدارة والتعامل مع المهمة التي أنشئت من أجلها. هل هذا يعني أن هناك مجاملة في إدارة شبكات السكك الحديدية التي هي المعلم الجديد للوطن أم أنه يعني أن كل جهة ستتولى ما يخصها؟ إذا كان الأول، فالإدارة لا تعترف بالمجاملة، خصوصاً إذا كان الأمر يخص مرفقاً عاماً. الفاشل يجب أن نقول له أنت فاشل، والفاسد لا بد من معاقبته، والوطن يزخر بالكفاءات التي تستطيع أن تنفذ مشاريع مثل هذه وأكبر باستخدام معايير إدارة المشاريع العالمية. أعتقد أن المؤسسة تجاوزت مرحلة الإصلاح ولا بد من اتخاذ إجراء حاسم يوقف هذه المهازل المخجلة. أما قضية توزيع مهام تخطيط وتنفيذ وإدارة كل مشروع لجهة مختلفة، فهي خطأ إستراتيجي آخر. إن توزيع المهام بين كل الجهات هو وصفة تضمن المزيد من المشاكل، لأن الكل ليسوا متخصصين في المجال، وهذا قد يؤدي إلى تكرار الأخطاء نفسها في كل جهة. يعني التوزيع أنه بدلاً من جسد واحد للتعامل مع قضايا السكك الحديدية سيكون لدينا أكثر من ست أو سبع جهات تنفذ المشاريع وتديرها بالطريقة التي تراها. أعتقد أن هناك وصفة سحرية لحل كل هذه المشاكل. بحكم أن المشاريع كبيرة ومتعددة وتحتاج إلى إدارة عليا وقيادة تنفيذية ذات خبرة واسعة وقدرة إدارية. أرى أن تكلف جهة إدارية بتوجيه كل جهود تخطيط وإنشاء وإدارة السكك، على أن يرأسها مسؤول أجنبي سبق أن أدار بنجاح شبكات في دول مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو اليابان. يعطى هذا المسؤول الفرصة لاختيار فريق عمله وتشكيل شركة عملاقة تدير هذه العملية برمتها. وبدل أن نخسر المليارات، سنحقق أرباحاً خيالية. قد يكون مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية مثالاً نعيد تطبيقه هنا. لنتحول من العقود المشبوهة والانقلابات إلى العمل المؤسسي.
إنشرها