Author

الاحتيال المحاسبي في «لايفنت» الكندية.. الإرهاب الإداري

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
عام 2010 أسدل الستار على واحدة من أطول التحقيقات في الاحتيال المحاسبي التي امتدت طوال سنوات العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي وتسببت في خسارة المستثمرين أكثر من 500 مليون دولار. إنها قضية شركة لايفنت الكندية Livent Inc إحدى الشركات المتخصصة في إنتاج الأعمال المسرحية والغنائية في كندا والولايات المتحدة. فبعد أكثر من 13 سنة من انهيار الشركة عام 1998 اتضحت معالمها الكبرى وتم إقرار عقوبة السجن على مؤسس الشركة والرئيس التنفيذي لها المعروف باسم درابنسكي Drabinsky وشريكه المعروف باسم قوتلب Gottlieb وحكمت المحكمة عليهما بالسجن بعقوبات تصل إلى خمس سنوات. لقد مارس هذا المسرحي لعبة استمرت أكثر من 20 سنة، وقال في نهايتها إنه كان يريد صنع ''كذبة'' محبوكة جدا وللجميع دور فيها حتى لا تنكشف معالمها. بدأت القصة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وذلك عندما كان درابنكسي يدير شركة لايفنت ويمارس من خلالها صورا متعددة من الاضطهاد الإداري والتعسف بحق الموظفين، خاصة في قسم المحاسبة، وما ذلك إلا ليجبرهم على تمرير الكثير من التصرفات غير القانونية له ولشريكه. كان درابنسكي يقوم بالاتفاق مع بعض الشركات الموردة لكي تضيف على فواتير التوريد مبالغ كبيرة باسم ''خدمات التوريد'' ويقوم هو بإدارة الشركة بالموافقة عليها، وعندما تسدد شركة لايفنت الفواتير (المتضخمة بقيمة خدمات التوريد) يقوم هؤلاء الموردون بإيداع قيمة تلك الخدمات في حسابات درابنسكي وشريكه. فهي حقيقتها رشوة وسرقة، لكن لشركة لايفنت التي تدفعها وليس للموردين. استمر هذا الاحتيال حتى تسبب في خسارة الشركة أكثر من 50 مليون دولار، وهذا بدوره تسبب في تدهور حالة الشركة وتدهور أرباحها. لبقاء الشركة كان الحل عند المدير التنفيذي وشريكه أن يتم طلب زيادة رأسمال من السوق المالية، لكن هذا يتطلب أن تظهر حسابات الشركة بطريقة تؤكد النمو في الأرباح وتطمئن المحللين. من أجل ذلك قام درابنسكي بتوظيف مراجع الحسابات الخارجي الذي كان يقوم بمراجعة حسابات الشركة في ذلك الحين. قدم درابنسكي إغراءات كبيرة لشريك مكتب ديلويت في كندا، وهي سيدة في العقد الرابع من عمرها وتميزت بثقة كبيرة في مؤسسة ديليوت لمراجعة الحسابات. عندما جاءت هذه السيدة إلى شركة لايفنت اكتشفت فورا مدى فداحة الخطأ الذي وقعت فيه بخروجها من مكتب المراجعة، فقد كان المطلوب منها تضليل مراجعي الحسابات الذين كانت تعمل معهم، أي خداع أصدقائها في العمل السابق. لقد اختارها درابنسكي ببراعة ومارس عليها صورا متعددة من الضغط والاضطهاد النفسي هي ومجموعة المحاسبين الذين عملوا معها. وتحت تهديدات وإغراءات درابنسكي المادية وضغط القرار الخاطئ وافقت على ممارسة عمليات متنوعة ومختلفة من أساليب الاحتيال المحاسبي ولمدة استمرت أكثر من أربع سنوات، وفي الوقت نفسه وببراعة حافظت على بيانات مالية دقيقة في سجلات سرية حتى تقدمها لإدارة الشركات عند اتخاذ القرارات وبينما تقدم بيانات زائفة للمراجعين والمستثمرين في السوق المالية. كان التلاعب المحاسبي يدور حول إخفاء عمليات الاختلاس الممنهجة، وذلك لتحسين صورة الأرباح من خلال التلاعب في تصنيف المصروفات وتحميلها على حسابات الأصول وإهلاكها على مدى سنوات طويلة أو تحميلها على ما كان يسمى مصروفات ما قبل الإنتاج Preproduction التي كان يتم استنفادها على سنوات العرض التي تصل إلى خمس سنوات، لكن أبرع ممارسات الاحتيال جاءت بتطوير برنامج محاسبي يمكنه تصفية البيانات الحقيقية والبيانات المزيفة كما كان مدير الحسابات (وهي الشريك السابق في ديلويت) تستطيع أن تدخل إلى البرمجة وتعديل ما تشاء قبل عمليات المراجعة وبعدها، وبالتالي تستطيع تضليل المراجع (وهي العمليات التي لم أصل حتى كتابة هذا المقال إلى شرح واف لها، ولعل هذه السيدة لم تقم فعلا بتوضيح كيف فعلت ذلك). ذلك أنها كانت (بحكم عملها السابق مع شركة المراجعة) تعرف أن مراجعة حسابات الشركات التي تستخدم الحاسب الآلي معقدة وتحتاج إلى مهنيين مختصين، كما كانت تعلم أن المراجع يقوم باختبار أداء برنامج المحاسبة باستخدام برامج اختبار مخصصة. كانت تلك السيدة تعرف كل ذلك فهي التي صممت برامج المراجعة عندما كانت تعمل في ديلويت سابقا ولذلك فقد طلبت تصميم برنامج تستطيع التحكم فيه والدخول على القيود المفروضة عليه وتعديلها وبالتالي إذا جاءت اختبارات المراجعة يكون البرنامج في أفضل حالاته فإذا انتهت العمليات عادت به إلى أساليب الغش والاحتيال المحاسبي، كما تعمدت أن تكون معظم عمليات القيد المحاسبية بلا وثائق ورقية يمكن تتبعها، بل جميعها إلكترونية، وبذلك تتعقد عمليات المراجعة وترتفع تكلفتها على المراجعين. ذكرت العديد من التقارير في هذه القضية أن المختصين بمراجعة النظم الإلكترونية IT Auditing كانوا قد لفتوا الانتباه إلى وجود ثغرات في النظام وأن بمقدور أحدهم أن يغير في بعض البرمجيات، لكن تلك التوصية لم تؤخذ بالأهمية الكافية، نظرا لأن هذه السيدة كانت تتمتع بثقة المراجعين بها، فهم زملاؤها من قبل، لذلك لم يكن أحد يعمل معها بدافع من الشك المهني، وتلك كانت أكبر الأخطاء المهنية التي وقع فيها المراجع الخارجي، ذلك أن المراجعين فقدوا استقلالهم الذهني أمام تلك السيدة التي كانت توجههم في عمليات المراجعة بحكم خبراتها والصداقة السابقة معها. عندما انهارت الشركة عام 1998 انهارت هذه السيدة فورا واعترفت بكل الاحتيال المحاسبي الذي مارسته وعزت ذلك إلى الإرهاب الإداري الذي مارسه درابنسكي عليها وعلى المحاسبين وقد حكمت عليها المحكمة بغرامات مالية باهظة وبالسجن لمدة خمس سنوات، لكن المدير التنفيذي درابنسكي أنكر تماما معرفته بكل ذلك الاحتيال ومارس التضليل والكذب حتى عام 2010 عندما صدرت عليه الأحكام القضائية النافذة. بعد هذه القضية المعقدة والمركبة فإن المعاهد المهنية تنصح الجامعات بأن يتم التركيز أكثر على صناعة الشخصية للمحاسب المحترف واستقلاله الأخلاقي والمهني، ذلك لأنه خط الدفاع الأول للممارسات الإدارية غير الأخلاقية. وفي رأيي، أن أي شركة أو مؤسسة (لو كانت حكومة) تصبح عرضة للشك إذا بدأت تستقطب المراجعين المهنيين المحترفين للعمل لديها بإغراءات مادية ''غير مبررة''، وفي هذا المسار يجب نأخذ تسرب موظفي ديوان المراقبة العامة لدينا إلى شركات ومؤسسات يشرف عليها الديوان بعين الحذر والشك المهني المحترف.
إنشرها