Author

«شايف البحر شو كبير»

|
بيروت كعادتها غجرية فاتنة لونَتْها الشمس نهاراً وتسهر ليلاً كشهوة القمر بدون كلل أو ملل. رحلة قصيرة تخللتها مقابلة في قناة فضائية تحلل بنهم غير عادي ما يغزو الصحف من مانشيتات رئيسية تخص الوطن الحبيب. إلا أن عروس الروشة بدت هذه السنة خاوية على عروشها بما فيها بحرها الجميل. تلقيت رسالة على جوالي من سفارتنا تنصح القادمين بالابتعاد عن "المناطق الحدودية، وعدم البقاء خارج المنزل إلى ساعات متأخرة من الليل، وعدم التجول في لبنان بمركبات تحمل لوحات سعودية، والاتصال بالسفارة عند الحاجة". مرت العلاقات السعودية - اللبنانية بمراحل تاريخية عدة. رغم غضب البحر أحياناً وعواصف الأزمات الإقليمية، يظل لبنان في قلب كل سعودي وتظل السعودية مأوى آمنا للبنانيين. ما زال بعض أصدقائي البيروتيين القدامى يتذكرون كلمات خادم الحرمين الشريفين إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006 والتي أكد فيها على أن "دعم لبنان واجب علينا جميعاً، ومن يقصِّر في دعم لبنان فهو مقصِّر في حقّ نفسه وعروبته وإنسانيته". هذه كلمة حق حافظت عليها السعودية على مر السنين بغض النظر عن لون الحكومة أو التيار الحاكم. وكما أن بحر السياسة واسع وشائك وعميق، كذلك هي طاولة الحوار التي أعاد الرئيس اللبناني إحياءها حرصاً على وحدة واستقرار لبنان. مقاهي "الروشة" ومطاعمها بدت حزينة لفراق زائريها الخليجيين. مع احترامي لقرار بعض الدول المجاورة، لم أجد ما يثير الخوف أو الرهبة من التجول في شارع "الحمراء" العتيق أو على شاطئ البحر أو حتى في متنزهات الجبل. ما زلت أعتقد أن القرار الذي اتخذته السعودية بترك الحرية لرعاياها لزيارة لبنان هو قرار متزن وحكيم. هناك بعض المناوشات في طرابلس شمال لبنان، لكن الوضع العام لا يدعو للتخوف من أحداث خطيرة. حتى بحر بيروت ينام على "الرملة البيضاء" غير عابئ بقلة الزوار والمصطافين. كلنا يريد أن يكون صيف لبنان واعدا ومزدهرا، لكن يبدو أن بعض الفئات تأبى إلا أن تضع أولوياتها السياسية المتطرفة قبل مصلحة لبنان الوطنية. لن يختلف اثنان على أهمية الثقل السياسي والاجتماعي للمملكة في لبنان. قد نتعرض لحيل الأشرار وأساليبهم في اقتناص الفرصة للنيل من محافظنا، لكن الحذر واجب في أي مكان نذهب إليه بمحض إرادتنا ولأسبابنا الخاصة فبحار العالم ليست كلها هادئة آمنة. لكننا كما وقفنا بجانب لبنان أثناء ضعفه، فقد وجدت أن اللبنانيين في الغالب يقفون معنا في كل أحوالنا. قابلت في بيروت وفي الجبل حتى في الضاحية أوفياء للمملكة يرددون ولو بصوت خافت حبهم للمملكة حكومة وشعباً. طبعاً السماء ليست كلها صافية، ونسمع من حين إلى آخر من يتهجم على السعودية من لبنان وغيرها ممن لهم أهداف سياسية أو بالأحرى اقتصادية محضة. هناك من يكتب أو يتحدث ليعبر عن رأيه، وهناك من يفعل ذلك لزيادة رصيده البنكي. لكن يظل لبنان بجبله وبحره وحضارته وفنه وثقافة شعبه أرضاً خصبة للطيبة والضيافة رغم كل الألغام والحسابات السياسية. النادل في المطعم وسائق الأجرة البسيط سواء المنتمي منهم للكتل السياسية المنحازة للنظام السوري أو الذين يقفون على الحياد، يعبر بعضهم ولو بخجل عن دعمهم لجهود السعودية لحفظ الأمن والسلام في المنطقة. حتى الصحف "غير الصديقة" تأنف عن ذكر المملكة بسوء إلا من بعض كتاب الشنطة القلة المنتمين اقتصادياً لنظام حاكم دمشق. ويزداد هؤلاء تبجحاً على شاشات بعض الفضائيات الصفراء ليكيلوا التهم الواهية والشعارات المشبوهة للسعودية وشعبها. أما الأكثرية من الإعلاميين فهم على درجة عالية من الذكاء الفطري والرقي المهني ويتعاملون مع الأحداث بحكمة وروية. وهكذا هو البحر، دافئاً قريباً أحياناً وعميقاً ماكراً أحياناً أخرى. البرقية التي أرسلها خادم الحرمين الشريفين إلى الرئيس اللبناني ميشال سليمان في آخر أيار (مايو) الماضي طرحت بهدوئها المتزن حالة من الارتياح في الأوساط السياسية اللبنانية. لم ترفع السعودية يدها عن لبنان، بل ما زالت تتعاطى مع الملف اللبناني الشائك من منطلق العلاقة المميزة بين البلدين وما زالت السعودية تؤيد الرئيس اللبناني ميشيل سليمان باعتباره الرئيس التوافقي الذي اجتمع عليه اللبنانيون. على كل حال، الدبلوماسية السعودية لم تنطلق عشوائيا، بل ارتكزت على دراسة معمقة للواقع الأمني في لبنان، لأن الحرص السعودي كبير على وحدة لبنان من جهة وعلى عدم حرمان هذا البلد الجميل من موسم سياحي واعد من جهة أخرى. ليس لدي أدنى شك أن سفيرنا في بيروت علي العسيري يسعى لتعزيز العلاقات السعودية - اللبنانية حرصاً منه على تفعيل سياسة المملكة المعروفة تجاه اللبنانيين، كل اللبنانيين. كلنا حرص على مصلحة لبنان من أيادي العابثين من جيرانه القريبين والبعيدين على حد سواء. وهنا أيضاً تظهر قدرة الدبلوماسي المحنك في قيادة المركب كالنوخذة الماهر وسط الموج الهائج. لن نهتم كثيراً بمن يسيء للمملكة أو يتعدى بالألفاظ الشائكة على حكومتها وشعبها. في نهاية الأمر يظل قلب السعودية ثميناً بأصدقائه، أما المخلفات فهي تُطْرَد على شواطئه بعيداً عن الغالي والنفيس. ويمتد بحر المبدعين السعوديين إلى بيروت، من الأصدقاء السعوديين الأعزاء الذين قابلتهم الإعلامية المميزة بثينة النصر وتشرفت أن أكون أحد ضيوفها مع الدكتورة هالة الدوسري في البرنامج التلفزيوني الحواري "هن". أما الشخصية التي تشرفت بالتعرف عليها فهو محمد المدني، وهو مؤسس النادي الثقافي السعودي في الجامعة الأمريكية وتم انتخابه خمس مرات متتالية رئيسا للنادي. إضافة إلى ذلك فقد شارك المدني في إقامة مهرجان الجنادرية في الجامعة لمدة ثلاثة أعوام متتالية ودخل اسمه ضمن قائمة "البصمة" التي تخلد اسم الفاعلين والنشيطين في الجامعة. نحن فخورون بك يا محمد.
إنشرها