FINANCIAL TIMES

بريطانيا في سعي دؤوب لإعادة مجدها الصناعي في القرن الـ 21

بريطانيا في سعي دؤوب لإعادة مجدها الصناعي في القرن الـ 21

بينما كانت تجلس في مكتبها المطل على حقل يملؤه ضوء الشمس، يقف فيه زوج من الخيول الهادئة، كانت ويندي شيلتون ممسكة بأحد الأغراض الفولاذية المغطاة بطبقة رقيقة جداً من النحاس. تقول المهندسة البالغة من العمر 37 عاماً والتي تعمل في عملية إنتاج عنصر لا غنى عنه في صناعة الإلكترونيات العالمية "لك أن تطلق عليه الفن الأسود، ليس هناك من هو بمقدوره أن يصنعه بالطريقة التي نتبعها". وفي حين يبدو هذا المصنع الصغير الذي لا يعمل فيه سوى سبعة موظفين موقعاً غير متميز لشركة عالية التقنية في المجال التي تعمل فيه، فإن هذا المصنع حقيقة بمقدوره أن يمثل المستقبل للصناعة البريطانية. هذه الشركة تقدم رسومات تخطيطية للشركات الذكية التي تعمل في وسط مناطق التكنولوجيا على أسس عالمية والمرجح أنها ازدهرت في الثورة الصناعية الجديدة التي هي في بدايتها الآن. والحقيقة أن المملكة المتحدة مفعمة بتلك الشركات تقترح أن بمقدور البلد أن تنهض مرة أخرى وتكون من أبرز المنافسين في مجال الصناعة، وهو القطاع الذي تصدرت صفوفه في القرن الـ18 والـ19 إلا أنها تعثرت في الآونة الأخيرة تعثراً بالغاً. ومع ذلك فبريطانيا لديها المهارة والسمات الثقافية المطلوبة لتعود إلى مكانتها الصناعية، فالدولة لا تزال تتخلف بمسافة كبيرة في سباق الصناعة عن دولتي اليابان وألمانيا، حيث تنتج الشركات المتخصصة في تلك الدول منتجات متخصصة وفريدة من الركيزة الاقتصادية للبلاد. فإذا كانت بريطانيا على وشك إعادة إنشاء القطاع الصناعي باعتباره محركا ذا قيمة عالية من أجل النمو، فإن الدولة وبكل تأكيد في حاجة إلى اتخاذ بعض الإجراءات من قبل الحكومة لتنشيط الدولة برمتها. إن التكنولوجيا التي تقدمها السيدة شيلتون تبرز تلك الإمكانات، فباستخدام تلك التكنولوجيا، ستقوم الشركات التي تعمل في صناعة الاحتياجات بداية من الهواتف الذكية وحتى صناعة الأفران بإعادة التفكير في أجزاء من إنتاجها. والعنصر الفولاذي الذي تمسكه بكل فخر في مكتبها هو مقبض لمحور وسادة هوائية، الجهاز الذي يعمل على السرعة في عملية الثقب، ما يجعله أكثر أماناً وثباتاً عند عمل ثقوب صغيرة في المعدات الإلكترونية. إن السيدة شيلتون وشركة آر آي شيلتون التي تشغل فيها منصب العضو المنتدب، لديهما نسبة تصل إلى احتكار تكنولوجيا الطلاءات السرية المهمة جداً لجعل هذه الوسادات تعمل بشكل ملائم. إن تأثير هذه الأغراض التي تبدو غير ضارة قد تضخم بفعل الاتصال بمئات الشركات حول العالم، وهو ما يعد سمة أساسية في الثورة الصناعية الجديدة. وهناك ثلاث شركات أخرى تستعمل التقنيات الجديدة، ومنها التركيز على المناطق المتخصصة في الصناعة والتركيز المتزايد على المنتجات الشخصية. وفي ذلك يقول خيري ترك، الأستاذ في معهد إلينوي للتكنولوجيا في شيكاغو، بريطانيا لديها مزايا متأصلة في تلك المناطق، إضافة إلى دعم استخدام اللغة الإنجليزية كلغة عالمية رئيسية. فبضم تلك القوى، بمقدور بريطانيا أن تصنع لنفسها مكانا على الخريطة الصناعية للقرن الـ21. وفي عام 2011، أنتجت المملكة المتحدة 2.4 في المائة فقط من إنتاج المصانع العالمية، واحتلت الترتيب التاسع في جدول اتحاد الدول الصناعية. واختفت العديد من أسماء الشركات البريطانية الكبرى التي هيمنت على قطاع الصناعة في القرن الـ20 مثل شركة لوكس للصناعات، وهي شركة تصنع مكونات السيارات. وأعقب فقدان المملكة لبراعة الصناعة في السنوات الـ50 الماضية بمصانع غير قادرة على التكيف مع الأسواق الآخذة في التغير والتقنيات الحديثة، فإن هناك تخوفات حول ما أثبتته المملكة المتحدة، لما فيها من أقسام العلوم في الجامعات، أنها غير قادرة على التحمل أكثر من مقدار ضئيل من الشركات الصناعية على غرار شركة باسف الألمانية أو شركة كاتربلر الأمريكية. لكن اليوم، المصنع البريطاني النموذجي يعتبر شركة صغيرة يعمل فيها نحو 50 موظفا. وهذه الشركات تنتج حصة كبيرة من النشاطات الصناعية منذ هبوط الشركات الكبرى. ومع التحولات الطارئة على القطاع، فإن غياب الشركات الصناعية التي تملكها بريطانيا لن يهم بعد الآن، وقد يصبح من المزايا بعد ذلك. إن المنهج الصناعي المنتشر في المملكة المتحدة يركز على الأعمال الصغيرة والمرنة بعين تهدف إلى صنع الجديد الذي يشكل قواعدهم الخاصة بهم، وبالتالي تتلاءم مع متطلبات النجاح. ولإعادة صياغة الجملة التي قالها جورج أوسبرن، مستشار الخزانة البريطانية، في خطاب العام الماضي وبها أثنى على مزايا الصناعة، حيث قال: إن العصر الجديد لن يكون متسما بكثرة المصنعين بقدر ما هو متسم بكثرة العباقرة. ليس من قبيل المصادفة أن يعرض تاريخ الهندسة البريطانية أمثلة قليلة للقادة الذين كسبوا شهرة واسعة في بلدان عديدة مثل الولايات المتحدة واليابان، وهؤلاء أمثال الخبير الإداري إدوارد ديمنج أو مدير شركة تويوتا لتصنيع السيارات، تايشي أونو، الذي حاز على شهرة واسعة في الثمانينيات. والصناعة البريطانية تحدد ملامح ذوي الفرص الموهوبين تقنياً مثل صانع الصلب هينري بيسمير والحالمون البطوليون أمثال الرائد في مجال الكمبيوتر تشارلز باباج. بينما كافح هؤلاء الناس في الماضي، لكنهم يجدون أنفسهم أقوياء لفعل ما هم فاعلون بجدية. ومن أبرز الأمثلة في ذلك نجد دايفيد ماكمورتري، مؤسس شركة رينشوا ورئيسها التنفيذي، وهي شركة مقرها جنوب غرب جلوسيسترشاير وهي أكبر مصنع لمجسات القياس المستخدمة في صناعة الأجزاء الصلبة. وعرف بحماسة غير تقليدية في مجال الهندسة، وأساليبه غير اعتيادية في إجراء الاجتماعات والمقابلات الشخصية، في الوقت الذي يقرأ فيه أبحاثاً عن تكنولوجيا الفضاء، تبنى العديد من الاختراعات ومع ذلك له رؤية مستخفة جداً تجاه المصرفيين والممولين. ومن المنفردين على نفس المنوال السيد جايمس دايسون وهو الذي جعل المكنسة الكهربائية المسماة على اسمه تدخل في صدارة عالمية لهذا المجال، وتطويره منتجات تصنع في شركة آسيوية فرعها الرئيسي في المملكة المتحدة يتماشى مع مخطط الثورة الصناعية الجديدة الذي يؤكد على فصل عناصر في سلسلة قيمة التصنيع. ومن مراقبي المنهج البريطاني السيد أبي ريشينتال المولود في إسرائيل وهو مهندس يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة أنظمة الأبعاد الثلاثية الأمريكية، وهي أكبر مصنع لماكينات طباعة الأبعاد الثلاثية، يقول: "كثير من المجموعات الهندسية البريطانية تتسم بأنها مرنة ورائدة وواقعية"، ويضيف قائلاً: "إن الحمض النووي الوطني الناشئ عن قرون من الاستعمار جعل لبريطانيا القدرة على التكيف والتأقلم عند التعامل مع الثقافات المختلفة". وهناك أسباب أخرى للتفكير في الميول الطبيعية للتصنيع في المملكة المتحدة تندرج في إطار الثورة الصناعية الجديدة. أحد هذه الأسباب الجنوح إلى التركيز على البيع في المناطق ذات المعامل المحدودة التي قد يتم ابتكارها إلى حد كبير من خلال الشركات المشاركة نفسها، والاعتماد على بيع الخدمات والمنتجات. ويقدر ستيف رادلي من جمعية الصناعيين، أن نصف إنتاج مصانع المملكة المتحدة، بما في ذلك كل المنتجات الإلكترونية والأغذية، مركزة على الأنشطة المحدودة لتلك المناطق. وأفضل مثال على ذلك هو شركة سباق فورمولا 1. وهذا يتضمن الاستخدام المكثف للموارد الهندسية لتصميم آلات عالية الجودة وصنعها، والتي يمكن أن تفعل القليل، بصرف النظر عن لعب دور مهم في رياضة المشاهدة العالمية المبنية على الدعاية. ليس هناك سبب يوضح كيف أصبحت بريطانيا دولة رائدة في إنتاج سيارة فورمولا 1، بغض النظر أن ذلك يتناسب مع ميول المملكة تجاه الإنتاج المعتمد على التكنولوجيا والأسواق. وتعتبر شركة سبيراكس ساركو مثالا آخر لهذه الظاهرة، وهي المصنع الأكبر لمعدات التحكم في البخار في العالم. إذ أنتجت نحو 50 ألف مجموعة متنوعة من صمامات الضغط والأمان والمنظمات تم بيعها لـ100 ألف عميل. والصناعة البريطانية ترسم أيضاً ملامح التعامل مع نطاق واسع من فروع التقنية وإيجاد الأرضية المشتركة بينهم. فتعد شركة سبيكترس إحدى الشركات الرائدة في صناعة العديد من معدات المصانع والمعامل، يقول رئيسها التنفيذي جون أو هيجنز: "علينا أن نواكب الكثير من التكنولوجيا المهمة المتاحة في الإلكترونيات والمواد الجديدة". وثالث نقطة قوة تتمتع بها بريطانيا هي القدرة على ابتكار حلول مشكلات العملاء، وغالباً ما يحدث ذلك من خلال اتباع نهج الصناعة المخصصة للعميل. وكذلك شركة سيجماتكس، الواقعة في شمال غرب المدينة الإنجليزية، رنكورن، وهي شركة رائدة في صناعة قوالب ألياف الكربون. وتستخدم هذه المنتجات في كل الأغراض بداية من الغسالات وحتى توربينات الطاقة، وتنتج نحو ألف شكل أساسي لها ما يجعلها تلائم احتياجات العميل. ويقول سكوت تلسون العضو المنتدب في الشركة: "إن هناك مجموعة غير محدودة من الناس في العالم في حاجة إلى أشكال جديدة من هذا المركب الذي مع صلابته وقوته يبدو خفيفا ويمكن استبدال البلاستيك والصلب به، ومهمتنا هي تلبية رغبات هؤلاء". الشركات الموجودة بالفعل في المملكة المتحدة لا تبدو قادرة بالقدر الكافي على مقابلة التحديات في الثورة الصناعية الجديدة. البلد في حاجة ماسة إلى إنشاء الشركات وتطوير الشركات العاملة بالفعل وتوسيعها في بعض الأحيان. ولن يتم التغاضي عن المطالبات بوضع سياسات جديدة مثل الأدوات المالية من المصارف الحكومية للمصانع الضعيفة مالياً. إن سمات الثورة الصناعية الجديدة جعلت مهمة معاونة الصناعة البريطانية أكثر بساطة لأن الدولة لديها بالفعل العديد من الصفات المطلوبة. ففي مثل هذه البيئة الجديدة قد يبدو الأمر معقولا أن تقوم السياسات بسد الثغرات الموجودة بالفعل في هيكل الصناعة. ومن الممكن أن تركز هذه الخطوات التمهيدية على مساعدة الشركات لتعمل على تحسين التكنولوجيا المستخدمة لديها، وتطوير استراتيجيات عالمية أكثر وتنظيم الكثير من مشروعات التنمية المشتركة مع شركات أكبر لكي تتعلم المزيد عن القدرات الفنية لتلك المجموعات. باستطاعة التقدم البريطاني في الثورة الصناعية الجديدة، مع الأخذ في الاعتبار الدعم الحكومي الإضافي، أن يتحول إلى شيء مبشر كما هو الحال في الثورة الأولى. التخصص: نبذة عن العلامة التجارية للمحال التجارية يعتبر محور الوسادة الهوائية هو فرع من فروع الصناعة العالمية المقصور على فئة معينة وفيه أبدعت بريطانيا تكنولوجيا خاصة به وما زالت تلعب دوراً مركزياً فيه. وتستخدم هذه الأجهزة الأسطوانية الصغيرة في الآلات التي تقوم بعمل ثقوب صغيرة في اللوحات الكهربائية المطبوعة والموجودة في الهواتف المحمولة. اخترع هذه التكنولوجيا نيجل ألين في الخمسينيات، وهو بريطاني أسس شركة ويست ويند في مقاطعة دورست الإنجليزية. كا قام زميل سابق له بإنشاء شركة ثانية سميت "آير بيرنجز". وأصبحت الشركتان مملوكتين الآن للمجموعة الأمريكية للتكنولوجيا، "جي إس آي" وشركة هياتشي اليابانية على التوالي، وتعتبران الآن أكبر مصنع لمحاور الوسادات الهوائية. ووفقاً لما قاله أندريو ولانس، مستشار التكنولوجيا البريطاني، فإن الشركتين تنتجان على الأقل 80 في المائة من إجمالي المبيعات العالمية، وتبلغ نحو 60 مليون دولار. يبدو أن شركة آي آي شيلتون تعمل في عمق تخصصها، إذ إن الشركة التي بدأ عملها عام 1974 اخترعت طلاء متخصصا يقابل حاجة محاور الوسادات الهوائية. وتضيف التكنولوجيا الخاصة بالشركة طبقة رقيقة من النحاس الذي لا يتآكل، حتى وإن تحرك الجهاز بسرعة الضوء ليقوم بعمله. وتعتمد كل من شركة ويست ويند وآير بيرنجز على شركة آر آي سيلتون في شراء تلك الطلاءات، كما هو الحال لدى عشرات الآلاف من الشركات الإلكترونية التي يقع العديد منها في الصين. وتقوم ويندي شيلتون، مدير الشركة الواقعة في تشيشير، بكل سعادة بعرض مناطق الطلاء للزوار إلا أنها أبت أن تفشي سر التفاصيل العملية. إنها في غاية التفاؤل بشأن المستقبل، إذ تقول: "بالطبع هناك فرصة سيعمل عليها الصينيون لمعرفة كيفية فعل هذا، لكن طالما أننا نواصل العمل على تحسين أنفسنا فسنبقى دائما في الصدارة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES