Author

ريادة الأعمال وضرورة تطوير مؤسسات المجتمع المدني

|
المبادرات الإبداعية لا تقتصر على الأعمال التجارية، هذه حقيقة نقرؤها في صفحات التاريخ ونستشفها من الإنجازات العظيمة للمجتمعات التي أثرت في الحضارة العالمية. فرواد الأعمال الاجتماعية هم من يقودون العمل التنموي وإحداث تغيير جذري في المجتمع وإعادة ثقافته في العطاء والبذل والاجتهاد والإنتاجية. هدفهم ودافعهم المصلحة العامة وتحقيق رؤاهم وطموحاتهم في معالجة المشكلات الاجتماعية وتطوير المجتمعات اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بأفكار إبداعية خارج المعتاد. إلا أن المجتمعات الإنسانية بطبيعتها تألف المكوث في منطقة الراحة أو المعتاد ولا تحبذ التغيير والتحول إلى أوضاع جديدة، فالتغيير أمر لا يخلو من التحديات والصعوبات ويتطلب طول النفس والصبر والتحمل، وهذا ما لا يستطيعه إلا الرواد أصحاب الهمم والتطلعات العالية. هناك أمثلة كثيرة لأولئك القياديين الاجتماعيين المميزين على المستوى الوطني والعالمي أثروا في مجريات التاريخ وصنعوا مجدا لمجتمعاتهم بمبادرات شجاعة وجسارة بالغة لسبر أغوار المجهول بنظرة ثاقبة وإيمان وعزيمة صادقة. فها هو الوالد الملك عبد العزيز - رحمه الله - يضرب مثلا في أن الأحلام الكبيرة تقود لمنجزات كبيرة، وأن على المرء الثقة بالله أولا، ثم بالنفس والإصرار على تحقيق الحلم والطموح بالعمل الجاد. الملحمة الكبيرة لتوحيد السعودية البلد القارة على يد رجل لم يكن يملك إلا القليل من الرجال والعتاد كانت في نظر الكثيرين مجازفة كبيرة محفوفة بالمخاطر والصعاب والتحديات، وهذا بالضبط ما كان يراه الملك عبد العزيز آنذاك، لكن الفرق أن لديه شغف تحقيق الحلم الذي يؤمن به، فالشجاعة أن تقدم وأنت حذر! لقد تحقق حلم الملك والتف حوله الجميع لأنه قدم مشروعا إبداعيا كبيرا يخلق وضعا جديدا مربحا للجميع. لم يفكر أحد في وقت الملك عبد العزيز في بناء دولة والتأسيس لحكومة شرعية وعقد اجتماعي مبني على الشريعة الإسلامية والقيم العربية الأصيلة يجمع الناس ويوحد بينهم وينشر السلام والاستقرار، ففي تلك الحقبة سادت فيها النزاعات والصراعات القبلية، وكان أقصى ما كان يرجوه البعض أن يكون أميرا على جماعته في نطاق جغرافي صغير. إننا اليوم ما زلنا نعيش حلم الملك عبد العزيز، فما ننعم به من أمن وأمان هو بفضل الله ثم بفضل حنكته وحكمته وأنه لم يرتض المكوث في منطقة الراحة أو أن يأنس بالأمان لنفسه وهو الشاب الذي كان يفترض أن تستهويه الحياة وملذاتها، إلا أنه بكل تأكيد رجل غير اعتيادي، وهذا ديدن الرواد والمبادرين الجسورين يرون ما لا يراه غيرهم لأنهم لا يضعون الأعذار والعقبات ليلتصقوا بالأرض، ويرضوا بالقعود دون أن يغيروا الأمور من حولهم للأفضل، إنما دائما يتطلعون إلى المستقبل لخلق الفرص، وتهيأت الظروف لهم ولغيرهم للنهوض والحركة وإحداث التغيير. هذا التغيير لم يكن ليحدث لو كان تفكير الملك عبد العزيز بيروقراطيا نمطيا أو كان تفكيره ضيقا بمصالح ذاتية آنية، لكن كان تفكيره أكبر من ذلك بكثير، لذا جاء الإنجاز كبيرا. يرحمك الله أبا تركي فقد كنت نعم المواطن ونعم الملك عملت من أجلنا جميعا وحققت أكبر وحدة وطنية في العالم العربي مبنية على أسس متينة، لأن نواياك صادقة وغايتك عالية لم تكن لمصلحة خاصة أو أهداف قريبة آنية. هذه التجربة الفريدة والمتميزة تؤكد أن قوة المجتمع السعودي واتزانه ووحدته مرهونة بالعمل الريادي الاجتماعي لأنه الأساس الذي بنيت عليه هذه الدولة. لذا ستظل ريادة الأعمال الاجتماعية هي التي تصنع الفرق الحقيقي والكبير في مسيرتنا التنموية، وبالتالي لا بد من تطوير آليات وتشريعات مؤسسية تحفز وتحتضن الأفكار والمشاريع الإبداعية وتربي الأبناء والبنات على الانخراط في العمل الاجتماعي التطوعي. هذا يتطلب توسيع دائرة مفهوم مؤسسات المجتمع المدني لتكون أكثر استقلالية تتيح الفرصة لأولئك الرواد الاجتماعيين تنسيق جهودهم تحت مظلة مؤسسية للتعريف بالقضايا الاجتماعية التي يتبنونها. لقد كانت تلك المؤسسات حاضرة وبقوة في عهد الملك عبد العزيز، فكان هناك العديد من النقابات التي تخدم مصالح الفئات المختلفة في المجتمع، إلا أن ذلك تراجع مع إنشاء العديد من الوزارات، خاصة في ظل التخطيط التنموي المركزي لتتحول جميع القرارات إلى قرارات بيروقراطية وتضعف معها المشاركة الشعبية في عملية التنمية. لقد أصبح الوضع الراهن للعمل الاجتماعي يقتصر على الجمعيات الخيرية التي تقدم المساعدات المالية للمحتاجين ومراكز تحفيظ القرآن والجمعيات العلمية، وهي بلا شك تقوم بأعمال جليلة وعظيمة ومقدرة، لكن هناك حاجة ملحة إلى إطلاق الطاقات في عدة اتجاهات لتنمية المجتمعات المحلية في تناول موضوعات وقضايا متنوعة تارة تأخذ صفة العمومية مثل التلوث والازدحام أو ربما الفساد الإداري أو الجرائم والمخدرات وتارة أخرى تتناول قضايا تخص فئة من المجتمع تحاول أن تدفع بها لتكون ضمن الأجندة الحكومية. إن هناك ضرورة لتوسيع دائرة العمل الاجتماعي من خلال مؤسسات تتناول قضايا أكثر حساسية وتسهم في إدارة المجتمعات المحلية. هذه المؤسسات تأتي ضمن النهج الإسلامي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن بصورة عصرية تتناسب مع الأطر المؤسسية والتشريعات الحكومية. والأخذ بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من هذا المنظور تتحقق خيرية الأمة ورفعتها اقتصاديا واجتماعيا، وهي في حقيقة الأمر متطلب أساس لاقتصاد المعرفة المبني على تبادل المعلومات وبناء الخبرات. إن مؤسسات المجتمع المدني بمفهومها التنموي تتيح الفرصة لتقديم خدمات يعجز عنها القطاعان العام والخاص وبإمكانها ملء الفراغ بتلبية احتياجات المجتمع. إن تحجيم دور مؤسسات المجتمع المدني يقلل من الجهود الإبداعية للأفراد والمجتمعات في وضع حلول للمشكلات القريبة منهم التي تهمهم ويعيشونها بشكل يومي ويفوت فرصة توحيد الجهود الجماعية لتقديم مبادرات وخوض تجارب جديدة وبناء خبرات تحقق الاستدامة والكفاءة والفاعلية. تفعيل مؤسسات المجتمع المدني ومنحها مساحة أوسع، موضوعا وسلطة، ليس من باب الترف السياسي، إنما ضرورة تحتمها التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع وتتطلب تضافر الجهود في التصدي لها. هناك طاقات وطنية مبدعة في العمل الاجتماعي ورياديون بإمكانهم بذل المزيد لمجتمعاتهم المحلية يحتاجون فقط إلى عدم نقف في طريق إبداعاتهم وتعطيل مشاريعهم الريادية بحجج بيروقراطية ومخاوف لا مبرر لها.
إنشرها