Author

أبواق النظام السوري في تركيا

|
عندما قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إن الأزمة السورية شأن داخلي تركي، اعتقد كثير من المحللين أن ما يقصده التعبير عن شدة الاهتمام الذي توليه الحكومة التركية لما يحدث في سورية ونية التدخل لحل الأزمة، ولعل هذا ما قصده أردوغان فعلا، لكن الأيام كشفت لنا أن لهذا الكلام بعدا آخر ظهر جليا مع الانقسام الحاد في المجتمع التركي حول الموقف من الثورة السورية. الأزمة السورية منذ تفجر المظاهرات في درعا وانتقالها إلى المدن الأخرى ألقت بظلالها على الساحة التركية وأصبحت جزءا من المشاكل الداخلية، ليس بسبب دعم النظام السوري لحزب العمال الكردستاني أو تعاطف الطائفة العلوية مع بشار الأسد أو تخندق جماعات إسلامية مع المحور السوري - الإيراني فحسب، بل لأن النظام السوري اعتمد مواجهة الحكومة التركية على ملعبها بناء على قاعدة ''الهجوم أفضل وسيلة للدفاع''، وذلك من خلال حملات العلاقات العامة التي تقوم بها أقلام مأجورة ومتطوعة لتأليب الشارع التركي على أردوغان وحكومته. ومن الدعاية السوداء التي يتم ترويجها في إطار هذه الحملات الادعاء بأن الحكومة التركية أخطأت في حساباتها وتقديراتها، واستعجلت في اتخاذ القرار بشأن الأحداث وتبنيها موقفا عدائيا من النظام السوري، وأنه كان عليها التريث حتى تتأكد من حقيقة الوضع في سورية وتعرف إلى أي جهة تتأرجح الكفة. وفي تقدير من يوجِّه هذه الاتهامات إلى الحكومة التركية أن النظام السوري ما زال قويا ومتماسكا ولن يسقط أبدا، بل سينجح في قمع حركة التمرد التي تضعف يوما بعد يوم. ويصوِّر هؤلاء أن الحكومة التركية بالغت في ردة فعلها تجاه ما يحدث في سورية وتقدمت على الدول الأخرى في حسم موقفها من النظام السوري إلى درجة أنها أصبحت اليوم وحيدة في ظل المواقف الدولية والإقليمية التي تدعو إلى التعامل مع دمشق وتعترف بشرعية نظام بشار الأسد. ولا شك في أن الهدف من ترويج هذه الدعاية دفع المواطن التركي إلى التفكير بأن حكومة أردوغان تجر تركيا بمغامراتها وخطواتها غير المسؤولة إلى المشاكل والكوارث وربما إلى الحرب مع جيرانها. ومنذ اندلاع الثورة يستضيف النظام السوري بين الفينة والأخرى عددا من الصحافيين الأتراك ليقوموا بجولات ميدانية تنظمها المخابرات السورية ثم يعودوا إلى تركيا ويكتبوا أن الأوضاع في معظم البلاد هادئة باستثناء بعض المناطق الريفية والحدودية التي تشهد الاشتباكات، وأن السوريين حتى هؤلاء الذين خرجوا في المظاهرات ضد النظام يؤيدون الآن بشار الأسد بعدما رأوا ما تقوم به الجماعات المسلحة. اللافت في الأمر أن هؤلاء يتبعون في الدفاع عن النظام السوري نهجا يختلف إلى حد ما عن النهج الذي يستخدمه الموالون التقليديون، ولتمرير دعايتهم السوداء يلبِّسونها بشيء من المصداقية حتى يسهل قبولها لدى عامة الناس، ويدَّعون كذبا أنهم محايدون يستمعون إلى جميع الأطراف، ويركِّزون على كلمات حق أريد بها الباطل، ويعترفون بأن النظام السوري نظام قمعي يرتكب انتهاكات وحشية، لكن حديثهم الذي يبدأ بنقد النظام السوري يصب في نهاية المطاف في مصلحة هذا النظام، لأنهم يبرِّرون مجازره، ويزعمون أن المظاهرات والحركة الشعبية التي بدأت سلمية فقدت مشروعيتها فيما بعد بسبب اختراقها من قبل المنظمات الإرهابية كتنظيم القاعدة وتحولت إلى تمرد مسلح، ويقولون إن المعارضين أيضا ينتهكون حقوق الإنسان ويقتلون المدنيين ورجال الأمن وجنود الجيش السوري. لا يخفى على المتابع لما يكتبه ويقوله أصحاب هذه الدعاية أنهم يرمون بها إلى التشكيك في الثورة السورية واتهام الحكومة التركية بأنها تقوم بتضليل الرأي العام التركي لأنها - بزعمهم - لا تضع أمام أعين المواطنين الصورة بأكملها، إنما تنقل لهم جزءا منها وتخفي أجزاءها الأخرى التي لا تخدم سياستها. لكن الأخطر في الدعاية السوداء التي يقوم بترويجها أبواق النظام السوري في تركيا هو اللعب على الوتر الطائفي، وذلك بمحاولة تحريض الطائفة العلوية واتهام الحكومة التركية بأنها لا تنطلق في دفاعها عن الثورة السورية من المبادئ الديمقراطية والإنسانية والأخلاقية، بل من المنطلق الطائفي لتأسيس ''هلال سني'' بالتعاون مع السعودية وقطر. وليس المهم لمن يروِّج هذه الدعاية مدى صحتها، بل يكفيه أن تزعج الطائفة العلوية في تركيا وتشوش على القوى الديمقراطية وتربك حكومة أردوغان لتجعلها تبذل كثيرا من وقتها وطاقتها لإثبات أن سياستها ومواقفها ليست طائفية. تركيا بلد ديمقراطي يسعى إلى تعزيز الحريات في جميع المجالات، والمعارضون للحكومة التركية ينتقدون سياستها دون أن يخافوا من أي قمع أو ملاحقة. ومن بين المستفيدين من أجواء الحرية هذه الموالون للنظام السوري وأصحاب الحملات الإعلامية المضللة، الذين يستغلونها لضرب حكومة أردوغان وتحريض الشارع التركي ضدها، مع أنهم لا يمكن أن يمارسوا مثل هذه الأعمال الدعائية ولا حتى عُشْرها في ظل النظام الدكتاتوري الذي يدافعون عنه. الحكومة التركية تستطيع أن ترد على أبواق النظام السوري بقوةٍ ومن دون الحاجة إلى تكميم الأفواه، وذلك من خلال وسائل الإعلام الرسمية والموالية لها، لكنها لا تفعل ذلك، لسببين؛ أولا: أنها لا تريد أن تعمِّق الانقسام في المجتمع التركي بشأن الأزمة السورية. وثانيا: أنها لو قامت بشن حملات واسعة النطاق لترويج الدعاية المضادة لدعاية النظام السوري لا تدري ماذا تفعل بعدها.
إنشرها