Author

الثمانية.. وأنا

|
.. انعقدت صداقة قوية بين السفير السنغافوري في الرياض السيد "ونج" وبيني، ونلتقي أكثر من مرة شهرياً على الأقل خارج الإطار الرسمي. عادة ما يكون معه أحد مقالاتي بالإنجليزية في جريدة "العرب نيوز" ليبدأ منها نقاش يتفرع لمعظم مجالات الفكر الإنساني، فهو وأنا مهتمان بعلوم الحضارات الإنسانية ونتناقش طويلاً في تركيبة الأخلاق ومنظومة السلوك والتكوين التشريحي في الأقوام البشرية في غرب وجنوب آسيا، ونختلف ونتفق ثم يأتي كل منا بدلائله في الجلسات القادمة. أكبر همٍّ للسيد "ونج" هو كيف يوطد علاقات بلده مع المملكة، وهمّي كيف نستفيد من أقصى ما تمكننا الظروف من التجربة السنغافورية، ونعمل معا على صعيده الرسمي وعلى صعيدي الشخصي للبحث عن أفضل الطرق التي يفوز بها الطرفان. على أن هذه الصداقة مع الوقت تبلورت إعجاباً كل منا بصديقه، فتصير مناسبة مهمة هنا فأدعوه، وتصير مناسبة من حوله فيدعوني. صديقي "ونج" حسب الأعراف الدبلوماسية في التقادم الزمني يرأس مجموعة سفراء دول شرق آسيا الثمانية الممثلين في المملكة، ولكتلتهم اجتماعٌ دوري. هاتفني قبل أسبوع يخبرني بأنه وسفراء الدول السبعة (ثمانية مع سنغافورة) يدعونني للغداء يوم الأحد (أمس) بعد اجتماعهم طبعاً بصفة غير رسمية، دعوة الأصدقاء للأصدقاء، وبالنسبة لي كانت فرصة مقدمة لي على صينية من بلاتين لأتحدث عن بلدي وشباب بلدي، بالذات مع ممثلي ثماني دول مهمة، هي: سنغافورة والفلبين وإندونيسيا وبروناي وماليزيا وفيتنام وميانمار وتايلاند.. وكانوا يريدون التحدث أيضا عن بلدانهم. كان السفير الفيتنامي السيد "تويين" هو الذي بادر بالحديث متسائلاً باهتمام عن أن السعوديين لا يعرفون فيتنام ولم يسمعوا بها، وأنهم مهتمون بمناطقهم القريبة، وقلت له دعني أصحح خطأً في رأيك. إن عدم اختلاطكم بالناس أو الصورة القبلية تصنع كثيراً من الأحيان انطباعاً زائفاً، فالسعوديون مهتمون بالعالم ومطلعون على الجغرافيا فهم أهل سياحة وتجارة، وأخبرته عن تاريخ فيتنام من قبل ظهور البوذية ونمو لغتها الحالية متفرعة من حضارة الخمر وكيف أن الفيتنامي له ثقافة مختلفة عن الكمبودي مع تجاورهما، وكيف أن البوذية اتخذت منحى جديداً لما وصلت لفيتنام قادمة عبر كمبوتشيا.. وأن كل شاب في المملكة يعرف أن فيتنام من جنوب شرق آسيا، وأنها كانت مستعمرة فرنسية ثم تحارب فيها السوفييت والأمريكان لما انشقت فيتنام الشمالية مكونة جمهورية شيوعية. اتسعت عينا السفير تعجباً، وقلت له دعني أدعو ذلك الشاب في الطاولة البعيدة، وبالفعل تقدم الشاب بمجرد أن أشرتُ إليه وعرّفته بنفسي وسألناه عن فيتنام، وحدثنا بل أضاف ضاحكاً أن لمجموعة الزامل حضوراً صناعياً في فيتنام، وأنه يسميها "نام" ليس بسبب الاختصار الأمريكي المعروف، بل لأنه اسمها الحضاري القديم، فصفق السفراء. كان تحدياً غير محسوب مني، ولكن من تعاملي مع الشباب أعرف: لم يخذلوني قط. وكأن السفير الفيتنامي أطلق زفرة راحة من صدره، لاحظتها من ابتسامة جانبية بعينيه. كان الحديث ذا شجون أيضا مع السفير الفلبيني السيد "عز الدين"، أي والله هذا اسمه، ويتحدث العربية باللهجة المصرية ليس بطلاقة فقط، بل كأنه من قلب بولاق في مصر، أمه مصرية، وأبوه فلبيني مسلم كان يدرس في جامعة القاهرة. وضّح السيد "عز الدين" الروابط الخاصة بين الفلبين والمملكة من الناحية البشرية الفردية فتواصل الدولتين عبر العنصر البشري في المقام الأول، واتفقنا أن بالفلبين أجمل منتجعات الأرض، ولكن الصورة ضبابية ناتجة عن تقصير شديد من مكاتب ومؤسسات الدعاية السياحية للفلبين، ومع السفير الماليزي السيد البروفيسور"محمد السقاف" وهو حجة في اللغة العربية وخريج "جامعة المدينة المنوّرة" التي نشرت العلم لطلاب الشرق الأقصى - ومع الأسف تضاءل دورها الآن - وأول ما قابلني شكرني عن شعبه، طبعاً لم يقصد الشعب الماليزي وإنما الشعب الحضرمي، مشيراً لمقالي: "الحضارم أساتذتي الكبار"، وكانت رغبته كبيرة في إنماء مشاريع مشتركة في مجالات الأعمال والثقافة والتعاون الخاص بين البلدين وشدّد على اجتماع لاحق. اقترحت على السفراء تنمية تبادل الزيارات والمناشط المشتركة بين الشباب السعودي وشباب دول جنوب شرقي آسيا، وأكدوا أنهم سيعملون جادين مع مراجعهم لتحقيق ذلك. قلت لهم مودعا: "أنتم بالنسبة لي لستم سفراء.." لم يطل انتظارهم وهم يحاولون توقع ما أقصد، وأكملت: "أنتم بالنسبة لي أصدقاء!".
إنشرها