Author

معادلة.. تُعجز وزيرا ويحلها «بائع الدونات»!

|
عُرف عن أحد الوزراء السابقين أنه شديد المركزية، لا يمنح مسؤولي وزارته أي صلاحيات، ولا يُشك خيط في إبرة إلا بعلمه وموافقته، يتدخل في كل شيء، مهدرا وقته الثمين في صغائر الإدارة من اعتماد إجازات ''الفراشين'' إلى تحديد الصحف التي توزع على الموظفين! الكل في وزارته، من الوكلاء مرورا بالمديرين العامين إلى رؤساء الأقسام كانوا مستائين من أسلوبه الإداري. لكن ما إن خلع معاليه ''بشت'' السلطة، وبات فصلا مطويا من التاريخ البيروقراطي، إلا وتنفس الجميع هواء ''الحرية''. فقد كان الوزير يعاني من مشكلة ''ثقة''، فثقته بالجميع معدومة، ولذا كان يركز كافة الصلاحيات في يده، لم يفوض أيا منها لأيا منهم. في مواجهة الوزير السعودي يقف ''بائع دونات'' بعربته على ناصية إحدى المدن الأمريكية. يعمل لوحده، يقبض النقود من الزبائن، ويصرف لهم، ويحضر القهوة، ويلف الدونات. كان طابور زبائنه طويلا لدرجة منفرة. لاحظ البائع عزوفا متزايدا من الزبائن، ففكر في الكيفية التي تريح ''الزبون'' ولا تكبده تكاليف إضافية (لا يتحمل توظيف بائع معه). وابتكر طريقة تقوم على تعزيز ''الثقة'' بينه وبين زبائنه، فوضع علبة فيها ''فكة''، وقرر أن يكون الصرف ذاتيا.. الزبون يطالع الأسعار، وبناء عليها يضع ثمن القهوة أو الدونات في العلبة ويصرف نقوده بنفسه. أعطى البائع الثقة التامة لزبائنه، وأمنهم على نقوده، وقابله الزبائن بمزيد من الثقة، فركز جهوده على تقديم الخدمة، والنتيجة أن طابور الانتظار صار سريعا، وتهافت عليه الزبائن، منهالين عليه بالشراء والإكراميات. البشر سواء كانوا موظفين أو عملاء أو أصدقاء، يتفقون على محبة واحترام الواثقين بهم. فالإنسان يشعر بإهانة ما إن يشعر أن الطرف الآخر لا يمنحه الثقة أو يتعامل معه بنوع من سوء الظن أو الشك. إنها معادلة ''الثقة'' التي نجح بائع بسيط في معرفة مجاهيلها، بينما استغلقت على وزير يقف على رأس الهرم الوزاري! فإذا انعدمت الثقة كانت سببا كافيا لانهيار أقوى الدول، وأنجح الشركات، وأسعد البشر. وقد أوضحت دراسة أجراها مركز ''فرانكلين كوفي الشرق الأوسط'' أن 72 في المائة من قادة المؤسسات (المستطلعين) يؤكدون أن ''بناء الثقة'' أحد أكبر التحديات التي يواجهونها داخل كياناتهم. ولأن الثقة لم تنل حقها من الدراسة في عالم الإدارة والأعمال، فقد كرس ستيفن كوفي (الابن) أبحاثه لدراستها حتى إنه ألف كتابا فريدا بعنوان ''سرعة الثقة'' Speed of Trust متوصلا إلى معادلة بثلاثة عوامل (الثقة، والسرعة، والتكلفة) تتفاعل طرديا وعكسيا. فكلما ارتفعت الثقة، ارتفعت معها سرعة الإجراءات (علاقة طردية) وانخفضت التكلفة (علاقة عكسية)، والعكس كذلك صحيح. وأبرز مثال يؤكد صحة هذه ''المعادلة الإدارية'' ما شهدته أمريكا والعالم أجمع، بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001م، حين تزعزعت (انخفضت) الثقة بالبشر، فأصبحت إجراءات السفر بطيئة (انخفضت السرعة)، وارتفعت التكلفة للحاجة إلى توظيف عدد كبير من رجال الأمن والجوازات والمفتشين في المطارات الأمريكية مع إدخال أجهزة وتقنيات أمنية جديدة (الأمر نفسه كان يسري على إجراءات منح التأشيرات في السفارات الأمريكية). مع أن ''الثقة'' كانت عالية قبل الهجمات، لدرجة أن الأمريكيين كانوا يسافرون جوا بدون هوية، وعبر إجراءات سريعة، بل لم تكن لديهم وزارة للداخلية بمفهومنا (لديهم وزارة داخلية لكنها تُعنى بشؤون الأراضي الفيدرالية والسكان الأصليين!)، ما دفعهم إلى المسارعة في إنشاء وزارة للأمن القومي عقب تلك الأحداث الدامية. وعند بناء الثقة، يوضح ستيفن كوفي (الابن) في كتابه أننا نحتاج إلى مراعاة خمس موجات (دوائر أو مستويات) تتداخل وتترابط كالتالي: ـــ الثقة بالنفس: أساسها ''المصداقية'' وتقاس بالإجابة عن سؤالين: هل أثق بنفسي؟ وهل يثق الآخرون بي؟ ويمكن بناء المصداقية من أربعة عناصر: النزاهة، والنوايا، والقدرات، والنتائج. ـــ ثقة العلاقة: تتعلق بسلوك المرء وهو الظاهر لنا، لأن النوايا لا يعلمها إلا الله ـــ عز وجل ـــ، وعلى المرء أن تنسجم أعماله وسلوكياته. وهناك 13 طريقة يمكن من خلالها تعزيز الثقة بالعلاقات الإنسانية، منها أن تكون ''شفافا'' في علاقتك مع الآخرين وتتبادل معهم المعلومات التي تعني لهم. ــــ الثقة التنظيمية: تعتمد على مدى التماسك داخل المنظمة، وهذا يتمثل في مدى تناغم الأنظمة والعمليات والهياكل داخل الشركة مع قيمها وأهدافها دون تناقض. ــــ الثقة السوقية: تقوم على سمعة الشركة، فنحن إذا لمحنا شعار إحدى الشركات، واسترجعنا تجربة جيدة في التعامل معها، نشعر بالارتياح مقرونا بالثقة التي تدفعنا إلى استمرارية شراء منتجاتها أو خدماتها. ــــ الثقة الاجتماعية: تعتمد على مدى ''المساهمة'' التي تقدمها المنظمة للمجتمع. فحين شهدت مدينة لوس أنجلوس أحداث شغب عام 1992 تعرضت متاجر ومطاعم كثيرة إلى السطو والتخريب إلا فروع ''ماكدونالدز'' التي سلمت من تلك الأعمال، والسبب كان المبادرات الخيرية التي تقدمها لمجتمعها المحلي. ومن تجارب ''بناء الثقة''، قصة أعجبتني رواها لي ''شخصية قيادية'' معروفة، إذ قال إنه عندما كان يعمل في البنك، لاحظ أن طلبات القروض تمر عبر إجراءات طويلة يتأخر فيها البنك على العميل، ما يرغم بعض العملاء على الذهاب إلى البنوك المنافسة. وعندما حلل ''القيادي'' خطوات العملية الإدارية، لاحظ أن طلب القرض يستلزم نحو 15 توقيعا من إدارات مختلفة داخل البنك، فدخل على رئيسه مذهولا، وبيده نموذج الطلب وعليه خانات التوقيع، مؤكدا أن هذا الإجراء ضرب من جنون البيروقراطية وأنه لا بد أن يتغير. نجح القيادي في التخلص من كثير من الإجراءات غير اللازمة، مكتفيا بثلاثة توقيعات (وهي الضرورية)، وبالتالي عزز جانب ''الثقة'' بين البنك والعميل، فارتفعت سرعة إجراءات طلب القرض، وانخفضت التكلفة الإدارية. إن ''المدير'' مهما كانت كفاءته لن يصبح في يوم من الأيام ''قائدا عظيما''، طالما أنه لا يثق بمرؤوسيه أو أنه يتعامل معهم من منطلق الشك والريبة. لذا، على كل مدير أن يبرم ''عقدا افتراضيا'' بينه وبين موظفيه يمنحهم بموجبه الثقة ويعاملهم بحسن الظن. ولعلنا نجحنا في تحقيق ذلك في الشركة التي أعمل بها، حيث حرصنا على بناء الثقة بنفوس الموظفين، وأبرز شاهد يؤكد هذا التوجه، أن الشركة ألغت كافة أشكال رصد الدوام، فلم يعد لدينا بيانات للحضور والانصراف أو أجهزة بصمة. منحنا الموظف الثقة، فصار منضبطا في حضوره وانصرافه حبا في عمله والشركة، وإذا اضطر إلى التأخر صباحا يحرص على تعويض الوقت الضائع، ومهما ظهر من أفراد يسيئون ''الثقة الممنوحة'' سيظل أولئك استثناء لا يعمم ولا يبرر ''نزع الثقة'' من الأكثرية!
إنشرها