Author

السعودية ومصر .. أبعد من تعكير المياه

|
مهما كانت القضايا كبرى، ومهما كثر عدد الصائدين في المياه العكرة، أو الساعين إلى تعكيرها للاصطياد فيها فالعلاقات السعودية ـــ المصرية هي أكبر بكل تأكيد. هكذا أثبت تاريخها. هي من النوع الذي يحتوي حتى المصائب، فكيف الحال بمشكلة فردية تخص مصريّاً مخالفاً؟ (اتُبعت معه الإجراءات الطبيعية التي تقوم بها أي سلطات في هذا العالم)، في ظل علاقات بين دولتين، راسخة وثابتة ومتفاعلة، لم تكن في يوم من الأيام موسمية أو ارتجالية أو صوتية، أو من تلك التي تنهار لمجرد هفوة أو خطأ غير مقصود. الصائدون في الماء العكر، يتحاشون الجواب عن هذا السؤال: هل كانت علاقات المملكة مع مصر ستتأثر، فيما لو ضبط سعودي بالحالة نفسها التي ضبط بها المصري؟ الجواب ببساطة هو: لا. المسألة أن السعودية استدعت سفيرها من القاهرة لأسباب أمنية فقط، وأغلقت سفارتها وقنصليتيها للأسباب نفسها، وهو أمر (بل حق) طبيعي لأي دولة، تتعرض ممثلياتها للخطر. ولمن لا يريد الإجابة عن السؤال السابق، هذا ليس قطعا للعلاقات، بل هو إجراء احترازي ظرفي. والكل يعلم، أن مصر بعد الثورة، لم تستكمل بعد أدواتها الأمنية، وهي تسير في هذا الاتجاه، وهو أمر طبيعي، لا يمكن إغفاله. البعض في الجانب المصري الذي يسعى إلى تهييج ما لا يمكن تهييجه في العلاقات السعودية ــــ المصرية، لا يدرك حقيقة عمق هذه العلاقات. فقد أثبتت حصانتها من ''الأمراض'' القاتلة، حتى في فترة الخلافات السياسية بين الجانبين. وهذه العلاقات تتمتع بالفعل بخصوصية، لا تترك مجالاً للمنغصات. يضاف إلى ذلك، أن المملكة لا تدير (بشكل عام) علاقاتها الخارجية على أساس ردود الفعل، فكيف الحال بعلاقاتها الخاصة مع دولة شقيقة كمصر؟ ومن هنا يمكن فهم ما ورد في بيان المجلس العسكري الأعلى الحاكم في مصر ''بأن ما حدث لا يعدو سوى تصرفات غير مسؤولة، نأمل في تجاوزها بأسرع وقت ممكن''. ولأن الأمر كذلك، أقدمت المملكة على الخطوة الضرورية في استدعاء سفيرها من القاهرة، كما أن من حق دبلوماسييها والعاملين حتى غير السعوديين في ممثلياتها في مصر عليها، توفير الحماية لهم. أما فيما يتعلق بمصري ارتكب جرماً أو ضبط وبحوزته ممنوعات في الأراضي السعودية، أو سعودي قام بالفعل نفسه في الأراضي المصرية، فالساحة هنا هي ساحة القضاء، لا ساحات ''الردح'' أو التهديد أو التشهير، أو إطلاق شعارات لا تدين إلا مطلقيها. لقد مرت العلاقات السعودية ــــ المصرية على مدى العقود الماضية، بمراحل توتر (وإن كانت نادرة) إلا أنها لم تمس طبيعة وقوة وخصوصية العلاقة بين الطرفين، باستثناء القطيعة الدبلوماسية بين مصر وكل الدول العربية في أعقاب زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس المحتلة. وحتى خلال هذه القطيعة الجماعية، لم يتأثر وجود المصريين (مثلاً) على الأرض السعودية. كما أنه حتى في ظل مواقف وتصريحات استفزازية من جانب بعض المسؤولين في الحكومة المصرية في أعقاب الثورة، حول المساعدات السعودية لمصر، لم تؤثر في استراتيجية المملكة في توفير المساعدة الممكنة لهذا البلد الشقيق. فهي تعلم أن السياسات والحكومات متغيرة، والشعوب هي التي تبقى. ولذلك كان طبيعياً (مثلاً أيضاً) أن تقدم الرياض قبل أسبوع من الاعتداء على سفارتها في القاهرة 2.7 مليار دولار أمريكي، كمساعدات ضرورية لهذا البلد الذي يعيش أوضاعاً اقتصادية متردية، يعلم الجميع أنها مستمرة لأمد طويل. وعندما تكون الرؤية تجاه العلاقات بهذا الشكل، لا معنى لقضية فردية (يمكن أن تحدث في أي بلد)، خصوصاً إذا ما كانت مكشوفة ومفتوحة لمن يرغب في المتابعة والاطلاع والدفاع. ومع ذلك وأخذاً بالاعتبار لهذا المنظور الرشيد في إدارة المملكة علاقاتها الدبلوماسية مع الدول كافة، ولا سيما البلدان العربية الشقيقة ومصر تأتي في مقدمتها لا يصح أن تنتظر مصر القيادة أن تمتص إسفنجة الدبلوماسية ما حدث من تهييج وتشهير طال الدولة والشعب السعوديين إذ لا مبرر لانفلات من هذا النوع الصارخ على دولة هي في نظر الأسرة العربية والأمة الإسلامية والمنظومة الدولية تنحاز دائما للحكمة وتغليب العقل وتقف مع مصالح وحقوق الشعوب العادلة، وحين تكون السعودية ملزمة نفسها بهذا المعيار الحساس من العدالة والاحترام، يصعب معها أن تنظر إلى ما حدث وكأنة ''زوبعة في فنجان'' فالاجتراء على حرمة السفارة وسمعة السعودية لا يجفف خزيه بتعليقه على مشجب الفئات والأصوات اللامسؤولة.. وحتماً لا تضع السعودية مواصفات لمعالجة شناعة ما حدث فهذا شأن مصري يستدعي بصراحة نزع الأقنعة عن الوجوه المرجفة في هذه الهوجة حتى لو كانت الوجوه التي تتستر خلفها مما لا يخفى على المراقب البصير، فالإشارة إليها بالبنان بشجاعة هو لمصلحة العلاقة السوية بين السعودية ومصر بل والعالم.. فمثل هذا التدبير الانتهازي ومثل هذا الطيش المقصود شرر خطير، إن ترك له أن يتطاير فلن يقف عند رميه لأسوار السفارة السعودية وإنما إلى سفارات أخرى .. فهل لهؤلاء المرجفين أن يدركوا أنه قد ساء ما كانوا يفعلون؟
إنشرها