Author

لو جاءنا زوّارٌ من الفضاء!

|
.. احتفل العالمُ أمس 27 أبريل بيوم "الملكية الفكرية"، وهذه المرة كانت الجملة التي قادت الاحتفال الدولي السنوي هي: "في سبيل الاعتراف بأن وراء الإبداع، أي نوع من الإبداع، هناك قصة إنسانية" .. يا سلام! قصة إنسانية؟ نعم. إنها من أجمل الروايات التي لم يكتبها أكبر الرواة، ولكن كتبتها آلافُ العقول المتناثرة على الكوكب على مرّ الأزمان وعبر كل مكان. إنها العقول التي لا تعرف الشكوى ولا التذمر من العوائق، مهما كانت تلك العوائق. إنها عقولٌ تؤمن بأن المستحيلَ ممكن التحقيق لأن هناك ما هو أقوى من المستحيل وهو الإيمان. الإيمانُ بأن الله رزقنا العقل وهي معجزة الله الأولى، وأن العقلَ لا يعطله ويثقله إلا الشكوى والتذمّر الذي لم يتعلم الإنسان على مر التجارب الدهرية أنه لا يفيد، بل هو كابحٌ لعجلة الحياة، إنه صخرةٌ ثقيلة لا تخرج المرء من مشكلته وإنما تجذبه للقاع أكثر. ليت أن الشكوى والتذمر يغيران الواقع، لكلنا منه كيلاً في كل مكان. ولكنه كابح العقول، وممرض الإرادة البشربة للتحدي، لأن التاريخَ البشري الحضاري هو حصيلة التحدي والاستجابة للتحدي.. العقلُ البشري تقويه الموانعُ والعراقيلُ لأنه يخترع الحيلَ ليتجاوزها فيكتسب مقدرةً على مقدرةٍ وذكاءً فوق ذكاء. إن "ابن رشد" لما قال لأهل قرطبة: "أعيقوني، فهذا ما سيفتق الحبوب التي تحمل في ضميرها شجرة الأفكار، صار أن أعاقوه، وصار أن بقي إبداعُه الفكري منارةَ العصور المظلمة في أوروبا. كل عالمٍ كل مخترعٍ كل مبتكرٍ وراءه قصة إنسانية، نعم.. لولا تلك القصص الإنسانية لبقي المستحيلُ مستحيلاً. يظن البعضُ أن الدولَ المتقدمة تسهل للابتكار أكثر من الدول المتأخرة، هذا صحيح في ظاهره، ولكن هناك أيضا معوّقات وتحديات حتى في أفخر أماكن الدنيا التي تبدو أنها تشجع على الابتكار، هناك المنافسة، هناك السباق للإنجاز، هناك الخطوط النهائية، هناك التشكيك الكبير، خصوصا في دور العلم الكبرى ومعاهد الأبحاث، حيث يظن مَن فيها أنهم سدنة الفكر والإبداع على الأرض فيعيقون أفكاراً تجعلهم في الوراء. في كل مكانٍ تحدٍّ، في كل مكان قصة، وفي كل قصة معاناة.. ورحم الله المعاناةُ فهي رحم كل الإنجازات. إن البراعة والإبداع البشريين هما اللذان وضعتهما الإنسانية في الدليل الأرضى الإنساني لو جاءنا زوارٌ من خارج الأرض! ليس الإبداعُ حكراً على ناس معينين، إن الإبداعَ ملكية مشاعة. إن الأم التي تنشئ أبناءً ناجحين هي مبدعة كل الإبداع. وإن الأبَ الذي يضع القدوة ويرفع من قوة شخصية الأبناء ويبني فيهم حجراً وراء حجر حصن قوة الإرادة والتصميم والكفاح للحقّ وإقرار الذات، من أهم المبتكرين والمبدعين. إن كل تلميذٍ يتفوق ويجتهد ويحرص على البحث ويلحّ في السؤال المعرفي مهما ضويق، هو مبدعٌ وفي الوقت نفسه يستخدم الوسيلة التي تأخذه سريعاً على طريق الإبداع. إن المعلمَ الذي يسقي العلمَ لتلاميذه حتى يهضموه في خلاياهم ويجري في نسغ عروقهم لأنه يحبهم ولأنه يريد صنيعاً إبداعياً يسجل له، لهو فخرُ قائمة المبدعين. الآن أدعو رجال الأعمال، أدعو الغرف التجارية، أدعو الجمعيات الأهلية، أدعو الأسر في احتقالاتها وتجمعها، إلى أن يضعوا جوائز وحوافز للإبداع للشباب، ويعلموهم كيف أن الفكرَ مصنع وأن ما يخرجه هو ملكٌ لهم.. وأن الملكية الكبرى ليست أرضا أو سيارة أو مقتنىً ثمينا فحسب، بل إن الأفكار أيضا من الممتلكات وربما هي الأهم. إن الإنجازَ ليس مهما أن يكون كبيراً مفرقِعاً، إن ما يصنع الانتظام في الكون هو هذه الحركات المتتابعة الصغيرة التي تنتهي للتصميم الأعظم للكون. إن الإبداعَ الصغير الآلاف منه كمثل خرزات المسابح.. إن المسابح البراقة الأنيقة اللامعة المنتظمة إنما هي جنيُ وعملُ تلك الخرزات الصغيرة. لعلّي أرى آلاف الجوائز الإبداعية في كل البلاد، وسترون أن الأمة ستكون كمسبحةٍ كبرى تتلألأُ فيها ملكاتُ الفكر، ويلمع منها بريقٌ مشعٌّ عبر الحدود بأنوار عقولها المبدعة، وتبني ثروة دائمة لا تنضب ولا تزول. إن العقلَ الإنساني تعطله الشكوى والكسل والتذمر.. وتطلق بذور أشجاره الإبداعية الإرادة التي لا تلين، والثقة بالنفس التي لا تهاود، والإصرار على رفع القيمة الذاتية ولو تجمّعتْ جيوشٌ لتعيقه عن ذلك. لا حلّ آخر!‏
إنشرها