Author

جدل حول الذهب (4): عودة البنوك المركزية لشراء الذهب

|
بدءاً من حلقة اليوم نتناول أهم التطورات التي تحدث في السوق العالمية للذهب. لعل أهم هذه التحولات عودة البنوك المركزية لشراء الذهب مرة أخرى، حيث يعد دخول البنوك المركزية سوق الذهب العالمية أحد أهم التطورات في السنوات القليلة الماضية، وهو تطور كفيل بأن يحدث تغيرات جوهرية في هذه السوق، فنحن نتحدث عن مستهلكين بقوة شرائية ضخمة أو ربما غير محدودة، مقارنة بمصادر الطلب التقليدية في السوق العالمية للذهب. مثل هذا التطور في السوق العالمية للذهب يساعد على إبقاء أسعار الذهب مرتفعة إلى حد ما بفعل تحويل كميات كبيرة منه إلى مخازن البنوك المركزية لتبقى هناك بعيدة عن التداول في السوق، وهو ما يعني ضمناً تعقيم أثر الزيادات في الإنتاج العالمي للذهب على التقلبات في الأسعار السوقية للمعدن الأصفر. بعكس الحال عندما يتوجه الجانب الأكبر من الإنتاج العالمي الجديد من الذهب نحو صناديق المضاربة في المعدن، فإن كميات السبائك الضخمة التي تحول إلى مخازن هذه الصناديق تكون جاهزة للطرح بأي سعر للذهب عندما يصاب المتعاملون في المعدن بالذعر، وهو ما يسبب التقلبات في سعر الذهب. الجدول المرفق يوضح احتياطيات أكبر عشرة بنوك مركزية في العالم من الذهب، ونسبة الاحتياطيات الذهبية إلى إجمالي الاحتياطيات النقدية لهذه البنوك. لاحظ من الجدول أن الاحتياطيات الذهبية إلى إجمالي الاحتياطيات النقدية للبنوك المركزية للدول الغربية تعتبر مرتفعة نسبياً لاعتبارات تاريخية، بينما نجد أن الاحتياطيات الذهبية للبنوك المركزية للدول الناشئة تعد منخفضة كنسبة من إجمالي احتياطياتها. على سبيل المثال فإن البنك المركزي الصيني يمثل حالياً سادس أكبر بنك مركزي يحتفظ بالذهب في العالم، ومع ذلك فإنه عند مقارنة ما يحتفظ به البنك المركزي الصيني من ذهب بإجمالي احتياطياته بشكل عام، نجد أن هذه النسبة لا تزيد حالياً على 1.8 في المائة، وهو ما يعني أن الوزن الذي يمثله الذهب في إجمالي احتياطيات البنك المركزي الصيني أقل كثيراً من ذلك الذي نراه في البنوك المركزية الأخرى. الأمر نفسه ينطبق على اليابان وروسيا والهند. وفقاً لتقارير مجلس الذهب العالمي، فإن البنوك المركزية للدول الناشئة تشتري الذهب من وقت لآخر لكي تضيفه إلى احتياطياتها. من هذا المنطلق يتوقع أن تقوم الصين التي تملك احتياطيات تصل إلى 3.2 تريليون دولار بتخصيص جانب من هذه الاحتياطيات لشراء الاحتياطيات الذهبية، وذلك لتخفيض اعتمادها على الدولار الأمريكي ولخفض درجة انكشافها على الدين الأمريكي، بتنويع تلك الاحتياطيات. فاحتياطيات البنك المركزي الصيني من الذهب أقل بقليل من ألف طن، وفي المقابل يقل الاحتياطي الذهبي للبنك المركزي الصيني بصورة واضحة عن الاقتصادات المماثلة في الحجم، ولا يعبر عن التوزيع النسبي لاحتياطيات تلك الدول من الذهب كما هو واضح من الجدول. هذا التطور بدخول البنوك المركزية للدول الناشئة سوق الذهب يختلف عن الاتجاه العام بين البنوك المركزية في دول العالم الصناعي، حيث كانت الأخيرة تميل إلى التخلص جزئياً مما لديها من أرصدة ذهبية باعتبار أن هذه الأصول عقيمة وتتكلف مبالغ كبيرة لتخزينها، دون أن تصاحبها في المقابل منفعة موازية للبنك المركزي. غير أنه بالتدقيق في طبيعة الدول التي تشتري بنوكها المركزية الذهب مثل الصين والهند وسريلانكا والفلبين وتركيا وروسيا وتايلاند، يلاحظ أنها تشترك في الخصائص الآتية: - لم تكن لديها في الأساس كميات كبيرة من الذهب كاحتياطيات، ومن ثم فإنه مقارنة بالبنوك المركزية لدول العالم الأخرى في الغرب، فإن النسب التي تحتفظ بها هذه البنوك المركزية من الذهب إلى إجمالي احتياطياتها تعد صغيرة نسبياً، وهناك اتجاه بين محافظي البنوك المركزية هذه نحو التغلب على نقص الوزن الذي يمثله الذهب في إجمالي احتياطيات هذه الدول. - أن هذه البنوك حديثة عهد بالذهب كأصل احتياطي، وليست لديها خبرة طويلة به، وبنيت القرارات التي اتخذها صانعو القرار في البنوك المركزية من هذا المنطلق، وبناءً على الخبرة الحديثة بالذهب في العقد الأخير، والذي تتزايد أسعاره بمعدلات أعلى من أي أصل مالي في العالم. - أن هذه البنوك غالباً ما تتبع دولاً تحقق فوائض تجارية تتحول إلى احتياطيات سائلة، وفي السنوات الأخيرة، تتعرض الاحتياطيات السائلة للبنوك المركزية للعديد من المخاطر، أهمها تراجع قيمة العملات الاحتياطية الأساسية في العالم، وبصفة خاصة الدولار، والمخاطر الضخمة التي تحيط بأدوات الدين في أغلبية دول العالم المدينة، وفي ظل هذه المخاطر يصبح الذهب خياراً تصعب مقاومته. لكن هل نشهد بالفعل تعمقاً للظاهرة التي نراها حالياً من إقبال بعض البنوك المركزية للدول الناشئة على تخزين الذهب؟ في رأيي ليس من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه بحيث يصبح ظاهرة بين البنوك المركزية في العالم لسببين: 1- أن البنوك المركزية غالباً ما تميل إلى استثمار احتياطياتها من النقد الأجنبي في أدوات الدين والأصول السائلة مرتفعة الأمان لكي تحصل على عوائد مستمرة على هذه الاحتياطيات، والذهب لا يقدم هذه الخاصية إلا إذا كان الاتجاه العام لسعر الذهب هو الاتجاه الصعودي، وهذا ليس مضموناً في كل وقت. 2- أن البنوك المركزية بجانب الاهتمام بالعائد يهمها أيضاً اعتبارات السيولة للاحتياطيات، لكي تكون هذه الاحتياطيات جاهزة للاستخدام في أي وقت تحتاج فيه البنوك المركزية إلى هذه الاحتياطيات للتدخل في سوق النقد الأجنبي للدفاع عن عملتها المحلية، وذلك عندما تواجه عملاتها ضغوطاً نحو النزول أو الصعود غير المرغوب فيه في سوق النقد الأجنبي، والذهب لا يوفر هذه الخاصية. فعملية تحويل الذهب إلى أصل سائل تواجه صعوبتين أساسيتين بالنسبة للبنوك المركزية: - أنها تأخذ وقتاً، وذلك حتى يجد البنك المركزي المشتري المناسب للكميات الكبيرة التي يتم طرحها في السوق، فإذا تأخرت هذه العملية، فإن البنك المركزي يتعرض لمخاطر نقص السيولة التي يحتاجها. - أن عملية تسييل الأصول الاحتياطية الذهبية سيترتب عليها حدوث تقلبات سعرية كبيرة في السوق العالمية للذهب، نظراً لطبيعة الكميات التي يتم طرحها والتخلص منها فيه، الأمر الذي يتطلب حسابات خاصة من البنك المركزي الذي سيقوم بعمليات البيع حتى لا يترتب على ذلك التأثير بصورة جوهرية في عوائد عمليات البيع التي سيقوم بها بسبب تراجع أسعار الذهب المحتمل أن يترتب على هذه العمليات.
إنشرها