Author

لئلا يتحوّل بنو «حافز» إلى «تنابلة السلطان»!

|
يروى أن أحد السلاطين العثمانيين أمر بإنشاء دار للعجزة والمسنين، وخصص لها ميزانية للصرف على شؤونها، لكن الدار تحولت بمرور الوقت إلى ملجأ للكسالى ومدعي العجز يجدون فيها المأكل والمشرب والمأوى (المجاني)، فغضب السلطان مما جرى، وأمر بمعاقبة أولئك رميا في النهر. قام الجنود بجمع ''الكسالى'' واقتادوهم إلى النهر، إلا أن فاعل خير تدخل وعرض أن يستضيفهم في مزرعته إنقاذا لهم من الموت، على أن يقدم لهم الماء وبقايا الخبز اليابس بعد تبليله، فسألوا ''التنابلة'' فاعل الخير عمن سيتولى أمر ''تبليل الخبز'' في الماء، فقال: ''أنتم''، حينها صاح ''كبيرهم'' في الجنود ليستحثهم بالإسراع إلى النهر لإغراقهم تنفيذا لأوامر السلطان! تلك كانت قصة ''تنابلة السلطان'' التي سردها الزميل محمد صادق دياب - رحمه الله - بقلمه الماتع في أحد أعداد ''الشرق الأوسط''، وقد استرجعت أحداثها ما إن فرغت من قراءة تقرير ''الاقتصادية'' ''مستفيدو ''حافز'' يكسرون حاجز المليون'' الذي نشر الأربعاء الماضي. فالتقرير المنسوب مصدره إلى وزارة العمل السعودية يشير إلى ارتفاع عدد المستفيدين من البرنامج الوطني لإعانة الباحثين عن العمل (حافز) في شهره الرابع (ربيع الآخر) متجاوزا حاجز المليون، أي مستقرا عند 1.1153 مليون مستفيد، بمجموع إعانات يبلغ 2.3 مليار ريال، فيما كان عدد المستفيدين في الشهر الثالث (ربيع الأول) لانطلاقة ''حافز'' نحو 818 ألف مستفيد. لا أخفيكم أنني صدمت من الرقم، وكنت أتوقع أن عدد المستفيدين من ''حافز'' سيتناقص بحلول الشهر الرابع من انطلاقة البرنامج، خاصة في ظل تدشين برنامج ''لقاءات'' الذي يربط أصحاب العمل بالباحثين عن العمل، إلا أنني فوجئت بأن العدد قد قفز خلال ''دورة قمر'' بنسبة 40 في المائة! فهل يعقل مثلا أن أمريكا بتعداد سكانها الذي يتجاوز 313 مليونا يحصل فيها سبعة ملايين مواطن (2 في المائة من السكان) على إعانات البطالة من برامجها السبعة، بينما السعودية التي يبلغ عدد مواطنيها 21 مليونا يحصل فيها ما يزيد على مليون شاب وفتاة (أكثر من 5 في المائة من السكان المواطنين) على إعانات برنامج واحد هو ''حافز''؟ لقد كشفت وزارة العمل الأمريكية في 10 آذار (مارس) عن تراجع الطلبات الجديدة للحصول على إعانة البطالة في الولايات المتحدة، لتعاود تسجيل أدنى مستوى في أربع سنوات، ما يشير إلى تزايد الفرص في سوق العمل الأمريكية، حيث أشارت الوزارة إلى أن طلبات الحصول على إعانة البطالة الحكومية ''الجديدة'' انخفضت 14 ألفا إلى مستوى معدل يبلغ 351 ألفا. لن ألوم وزارة العمل (السعودية) على برنامج ''حافز''، فهي تنفذ الإرادة الملكية بدعم الباحثين عن العمل لحين ميسرة .. ولن ألوم الفتيات اللاتي يشكلن 82 في المائة من عدد مستفيدي ''حافز''، فأنا أدرك صعوبة عمل المرأة في مجتمعنا والتحديات الكبرى التي تعرقلها عن دخول سوق العمل بدءا من الوظيفة الملائمة التي تحافظ على كرامتها وإنسانيتها إلى توفير وسيلة النقل الآمنة من مكان العمل وإليه، إنما ألوم الـ 18 في المائة (أكثر من 200 ألف شاب سعودي)، وهم الشباب ذوو الشوارب المفتولة، وأخص بالذكر الشباب الذين لا يريدون أن يعملوا (التنبالة)، وليس الشباب الذين لم يجدوا عملا (العاطلون). فكيف يرتضي ''شاب'' أن يتلقى ألفي ريال في الشهر جالسا في البيت أمام التلفزيون والإنترنت، بينما لو مارس التجارة في ''بقالة'' أو ''سوق الخضار'' لحقق دخلا في اليوم الواحد يفوق إعانة ''حافز''.. كيف يرتضي هذا الشاب على نفسه تلقي ''الإعانة''، وهو في عنفوان شبابه متمتعا بالصحة والعافية، معطلا لقدراته وطاقاته، همه الوحيد أن يصحو عند غروب الشمس ليتحقق من حسابه إن كانت الإعانة قد نزلت، بدلا من أن يصحو عند الفجر يبحث عن عمل أو يفتح مشروعا فيكون رائدا من رواد الأعمال. إنها ''الاتكالية'' التي تغلغت إلى ثقافتنا منذ الطفرة النفطية الأولى (1973 ـ 1980)، التي حققت لنا نعما اقتصادية ونقما اجتماعية، فجعلت ''بعض'' شبابنا يتكلون على الغير متعودين أن يؤدوا عنهم مهام الحياة، فلم يبق إلا أن تقوم الحكومة بتبليل الخبز في الماء وتلقيمهم الطعام كما يفعل الطير مع صغاره! قد لا يدرك بعض الشباب الذين يدرسون في الجامعات الحكومية ممن تصرف لهم مكافآت أن زملاءهم من الشباب في دول أخرى (غنية وفقيرة) يكدحون ليلا في المطاعم والمقاهي لتسديد رسوم الدراسة الجامعية وإيجار السكن، لكن يبدو أن بعض الاتكاليين ظنوا أن إعانات ''حافز'' والمكافآت الجامعية وغيرها تعد مصدرا من مصادر الرزق، وليست دعما لهم من الحكومة لتجاوز جزء من متطلبات المرحلة حتى يتمكنوا من دخول سوق العمل ومعتركه والاعتماد على أنفسهم والصرف على أسرهم. النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أحدهم يسأل (يتسول) طلب منه أن يبيع موجودات بيته (كساء وقدح) ويشتري بثمنها طعاما لأهله وفأسا، ثم أرشده - صلى الله وعليه وسلم - إلى طريق من طرق العمل، وقال: ''اذهب فاحتطب وبع ولا أَرَينَّك - أي لا أشاهدنَّك - خمسة عشر يومًا''. فذهب الرجل يجمع الحطب ويبيعه، ثم رجع بعد أن كسب المال، واشترى ثوبًا وطعامًا، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم: ''هذا خير لك من أن تجيء المسألة (التسول) نُكْتَةً (علامة) في وجهك يوم القيامة''. فأين بنو ''حافز'' من هذا التوجيه النبوي؟ إن أفضل الحلول لمكافحة ''ثقافة الاتكالية'' عند بعض الشباب أن تعتمد الحكومة - بتنسيق بين وزارة الدفاع ووزارة العمل - التجنيد الإجباري، على أن يشترط على كل شاب قبل أن يحصل على إعانة ''حافز'' أن يلتحق بدورة من دورات التجنيد، وبعدها صدقوني لن تجد شابا سعوديا دخل معترك التجنيد اتكاليا أو يرتضي على نفسه الإعانة. بل لقد غدا ''التجنيد الإجباري'' ضرورة لكيلا تتحفز لدينا ظاهرة ''التنبلة'' بين الشباب، فيطلب ''تنابلة حافز'' من الحكومة أن تطعمهم السمك بدلا من تعلم الصيد!
إنشرها