Author

جدل حول الذهب (1)

|
منذ أكثر من عقد من الزمن تقريبا وأسعار الذهب تواصل الارتفاع، فقد بدأت رحلة الصعود لأسعار الذهب من 250 دولارا تقريبا في 2001 ثم بلغت أعلى مستوياتها حتى الآن في منتصف 2011 عندما بلغ سعر الأوقية 1925 دولارا، وهو ما يمثل ارتفاعا كبيرا لهذا الأصل في غضون هذه الفترة القصيرة نسبيا، الأمر الذي يجعل متوسط معدل العائد السنوي على الذهب نحو 20 في المائة، وهو معدل استثنائي بكل المقاييس، فلا يوجد تقريبا أصل يحقق عائدا متوسطه 20 في المائة سنويا. مع بلوغ الذهب قمته في العام الماضي تعرض الذهب لحملة تصحيح محدودة نسبيا، ومنذ ذلك الوقت تميل أسعار الذهب إلى التقلب بصورة كبيرة تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن عقد الذهب قد قارب على الانتهاء، وأن هذه التقلبات تلقي ببعض الشك حول احتمال استمرار الاتجاه العام الصاعد للسعر. فالذهب بينه وبين الأساس النقدي الأمريكي نوع من الارتباط، وينتظر مضاربو الذهب دائما بقدر كبير من الشغف الإعلان عن أي تيسير كمي أو تسهيل في السياسة النقدية الأمريكية لتبدأ حمى المضاربة في الذهب، وأخيرا كانت أنظار مضاربي الذهب متجهة أساسا نحو التيسير الكمي الثالث للاحتياطي الفيدرالي، وكانت التوقعات حول صعود أسعار الذهب نتيجة لهذا التيسير كبيرة، لكن حتى الآن يبدو أن هذه الآمال تتبدد شيئا فشيئا. البعض الآخر يرى أن الذهب لا يعاني فقاعة سعرية لأن شروط الفقاعة السعرية، من وجهة نظره، لا تنطبق على الأصل حاليا، بل يؤكد الكثير من المضاربين في الذهب أن التوقعات تشير إلى أن الطلب العالمي على الذهب سيستمر مرتفعا في السنوات القادمة، وعلى الأقل في 2012، ومن ثم يجزم المضاربون في الذهب باستمرار الاتجاه الصاعد له، وآخر هذه التوقعات أن سعر الذهب في 2012 سيضرب حاجز الألفي دولار للأوقية، وهو ما يعتبر تراجعا واضحا في التوقعات التفاؤلية حول سعر الذهب التي كانت تصل بهذا السعر وفقا لبعض التوقعات الشاذة إلى خمسة آلاف دولار. فمعدلات الفائدة الاسمية صفرية تقريبا، ومعدل الفائدة الحقيقي سالب في معظم أنحاءالعالم، وليس هناك في الواقع احتمالات أن تنعكس هذه الاتجاهات لمعدل الفائدة سواء في الأجل القصير أو المتوسط، وهذا ما أكده الاحتياطي الفيدرالي من حيث الإبقاء على معدلات الفائدة مثبتة عند مستوياتها الحالية حتى منتصف 2013، وطالما استمرت هذه الظروف في العالم فإن الضغوط على سعر الذهب نحو الارتفاع ستستمر في التصاعد. وسط هذا تتعدد التوقعات حول اتجاهات أسعار الذهب في المستقبل، وربما تكون أقوى وجهات النظر في الذهب هي ما أطلقها أخيرا المستثمر العالمي وارن بوفيت في التقرير السنوي لمؤسسته Berkshire Hathaway Inc عن عام 2011، حيث وصف الذهب بأنه أصل عقيم لا ينتج أي شيء، إنما يتم شراؤه من جانب المستثمرين لأن المشتري يأمل أن يأتي شخص ما في المستقبل، والذي يعلم أيضا أن الذهب أصل لا ينتجه يكون مستعدا لدفع سعر أعلى فيه. لقد شبه بوفيت هؤلاء المشترين بالمضاربين في زهرة التوليب أحد الأصول المفضلة للاستثمار في القرن السابع عشر، التي تناولتها هنا في ''الاقتصادية'' في الحلقة الأولى من سلسلة عالم لا يتعلم من أزماته، وكما هو شائع يشير بوفيت إلى أن الطلب على أصل عقيم مثل الذهب يكون دائما مدفوعا بالخوف من الانهيار الاقتصادي أو تراجع القيمة الحقيقية للأصول شبه السائلة مثل سندات الدين وكذلك عندما تتصاعد مخاطر انهيار العملات. يرى بوفيت أن مثل هذا النوع من الأصول الاستثمارية يتطلب تجمعا متزايدا من المشترين الذين يتم إغراؤهم بشكل مستمر، والذين يعتقدون أن تجمع المشترين سيتسع أكثر فأكثر في المستقبل، وفي ظل هذا التجمع فإن مالكي الأصل لا يندفعون نحو الاستثمار فيه بما يمكن أن ينتجه الأصل، إنما بالاعتقاد بأن الآخرين سيرغبون في الأصل بصورة أكثر وأكثر في المستقبل، وفي وجهة نظر بوفيت يعد الذهب من الأصول المفضلة حاليا للمستثمرين الذين يخشون الاستثمار في باقي الأصول، بصفة خاصة النقود الورقية. غير أن للذهب عيبين أساسيين هما أنه ليس له فائدة كبيرة لمن يقتنيه في حد ذاته، كما أنه أصل عقيم لا ينتج. فعندما يتملك شخص ما سبيكة وزنها أوقية من الذهب للأبد، فإنه لن يجد في النهاية سوى أوقية ذهب، بدون أي زيادة تذكر في المحتوى المعدني للسبيكة، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يشجع الناس على الاستمرار في اقتناء المعدن؟ يرى بوفيت أن الذي يشجع المضاربين في الذهب على الاستثمار فيه هو أن العوامل المسؤولة عن الخوف من الاستثمارات البديلة ستنمو، وقد كانت هذه المعتقدات صحيحة، خلال العقد الماضي، فضلا عن أن ارتفاع الأسعار دفع بالمشترين نحو المزيد من عمليات الشراء التي حققت توقعاتهم الاستثمارية، خصوصا مع زيادة أعداد المنضمين إلى طابور المشترين، وخلال الـ 15 سنة الأخيرة ارتفعت أسعار أسهم شركات الإنترنت وكذلك ارتفعت أسعار المساكن، وخلال هذه العملية انضم الكثير من المستثمرين إلى مجمع المشترين بالشكل الذي ساعد ارتفاع الأسعار على الاستمرار، غير أن الفقاعات السعرية التي تكونت نتيجة لذلك انفجرت بشدة فيما بعد. وللتأكيد على خطورة الذهب كأصل يشير بوفيت إلى أن إجمالي الذهب المستخرج من باطن الأرض حتى الآن نحو 170 ألف طن متري، والتي إذا ما تم صهرها فستصبح مكعبا أبعاده 68 قدما فقط، واذا ما قورنت قيمة هذا المكعب بباقي الأصول مثل ما يساويه هذا المكعب من أراض زراعية أو أصول للشركات الضخمة مثل إكسون موبيل، فخلال قرن من الزمن من الآن ستنتج الأراضي الزراعية كميات هائلة من المحاصيل الزراعية بينما ستكون ''إكسون موبيل'' قد وزعت تريليونات الدولارات من الأرباح وكذلك ينطبق الأمر على باقي الأصول، بينما ستظل كمية الـ 170 ألف طن من الذهب كما هي دون أي تغير وأيضا غير قادرة على إنتاج أي شيء. بالطبع على الرغم من أن الذهب أصل عقيم لا يولد عوائد نقدية (مثل فائدة أو توزيعات أرباح)، فإن ذلك لا يعني أن المضارب لا يمكنه تحقيق عوائد من الطلب على الأصل، فكما أشرنا مسبقا أنه ما بين 2001 و2010، تضاعف سعر الذهب أكثر من خمس مرات، ولذلك ينظر إلى الذهب بأنه يعاني الفقاعة السعرية .. لكن ما الفقاعة السعرية؟ هذا ما سأتناوله في الحلقة القادمة - إن شاء الله.
إنشرها