Author

صناعة الأسمنت بين المصالح والمنطق الاقتصادي

|
مستشار اقتصادي
تعيش المملكة طفرة عمرانية كبيرة مما زاد الطلب على مواد البناء، وخاصة الأسمنت والحديد. هذا الطلب ألهب حماس رجال الأعمال بالتوسع في صناعة الأسمنت، حيث المواد الخام المتوافرة ودعم الوقود المؤثر وانخفاض تكلفة التمويل. هذه العوامل جعلت من صناعة الأسمنت قطاعاً مربحاً ما جعل الكثير من الشركات تسعى للتوسع أحياناً دون إذن من ''أرامكو'' لإمداد الوقود لتلبية الطلب. هذا النمو في الطلب مصدره أتى لأسباب دورية (بسبب ارتفاع أسعار النفط وتزايد مصروفات الحكومة، حيث إن الميزانية حققت أرقاماً قياسية على مدى السنوات العشر الماضية) وأسباب هيكلية، حيث إن المملكة قصرت في البنية التحتية لنحو عقدين والآن تحاول التعويض، تزامن الدوري مع الهيكلي جعل الأسعار والأرباح عالية وزاد من نهم صُناع الأسمنت وانزعاج المستهلكين وارتفاع حساسية الدور الحكومي، هذا الوضع الطارئ جاء على خلفية إدارة اقتصادية غير متكاملة أصلاً. فالحكومة تدعم الصناعة من ناحية، ثم تحاول الأخذ بخطوات حمائية لا تخلو من الارتجالية وحتى العاطفة أحياناً. اقتصاديا تحقق شركات الأسمنت أرباحاً يسميها الاقتصاديون (الريع الاقتصادي Rent). لن ندخل في النواحي الفنية، ولكن المقصود هو الربح الذي يتحقق دون علاقة بالإنتاجية والاستثمار (بل بسبب الدعم والتسهيلات الممنوحة أو المكتسبة). موضوعيا الريع مصدر ربحية سهلة، وبالتالي تكون الأرباح أعلى مقارنة بأرباح القطاع في دول أكثر تنافساً وأقل دعماً، وبالتالي يصبح مرتع تنافس غير صحي. فالحكومة من ناحية ''تعطي'' البعض ثم تحاول تعويض بعض المتضررين (أو غير المستفيدين) وهذا ما تعيشه المملكة اليوم ـــ تجاذب بين رغبة في توسيع الصناعة والجزع من ارتفاع الأسعار لحماية المستهلكين. يتم هذا التجاذب في ظل غياب لسياسة الطاقة في صناعة تعتمد على الطاقة كعامل تكلفة مؤثر وغياب رؤية واضحة لسياسة الدعم، فسياسة الدعم موجودة ولكنها غير واضحة، لمن يعطى الدعم وفي أي مرحلة؟ وهل هو للمصنع (في صناعة الأسمنت للمصنع فقط) أم للمستهلك؟ تصدير الأسمنت عدا للدول القريبة والمحدودة يبقى عاملاً غير مؤثر، بينما الاستيراد لن يؤثر كثيراً نظراً لتكلفة النقل فالمعادلة في أساسها إشكالية محلية.استشرافاً هناك مخاطر عدة أهمها أن دورة الأعمال لم تنته ونحن في طفرة عمرانية وهذه الحالة ستتغير لا محالة ناهيك عن التنبؤ بما ستقوم به الحكومة في تسعير الوقود أو التحكم في الأسعار أو سياسة التصدير من عدمه. ما الحل؟ إشكالية الأسمنت مثال صارخ على الفراغ الكبير بين سياسة الإدارة الاقتصادية الجزئية (الأسمنت) والسياسة الكلية غير المترابطة، ولذلك هناك بعض الارتباك في القرار الاقتصادي. الحل المثالي اقتصادياً هو تحرير السوق من تشوّهات الدعم تدريجياً والحد من استغلال الريع الاقتصادي لمجموعات صغيرة، وهذا ما حاولت وزارة البترول من خلال إجبار شركات الأسمنت على طرح عام. لعل من الأجدى إعلان سياسة تقليص للدعم على الوقود تدريجياً بعد سنة من الآن (لتخفيف تأثير تزامن الدوري مع الهيكلي). الخطوات الوسطى عادة تكون مؤلمة، وقد تحدث درجة من الفوضى غير الخلاقة ولكنها سعر تكلفة عدم التخطيط السليم والسماح بتزامن الدوري مع الهيكلي دائماً عال. هناك مَن يرى أن وقود الفحم قد يكون بديلاً اقتصادياً إذا تغيّرت أسعار الوقود، ولكن التحديات البيئية والاقتصادية لن تختفي.
إنشرها