Author

قصيدةُ السفهاء، أم حيلة الأذكياء؟

|
أعدكم اليوم لن أثقل.. هي قصةٌ طريفة حصلتْ حقيقة في التاريخ القريب في مصر، ربما تثبت لكم أمراً نتأمل فيه معاً. نحن الآن في عام 1897م ومصر تفور سياسياً واجتماعياً تمرُّ بمفصل حركي نهضوي مهم في تاريخها، وكانت تستعد لاستقبال حاكمها الخديوي "عباس حلمي" قادماً من زيارة قام بها للأستانة، والأستانة بها مقر الباب العالي أثناء الحكم العثماني، وهي إسطنبول الحالية. ذاك اليوم استيقظ الناس على قصيدةٍ لاذعةٍ في هجاء الخديوي بصحيفة "الصاعقة". القصيدة لم نعرف حتى الآن من منشئها، أو من هم، تواترت الرواياتُ واختلف النقل.. والأكيد أنها نُشرت في جريدة اسمها "الصاعقة" اندثرتْ من عشرات السنين، وكان يملكها صحفيٌ معروف آنذاك اسمه "أحمد فؤاد". نعم، في الواقع لم نتبين بدقة من منشئ القصيدة الفعلي، تكشّف أولا أنها للكاتب والأديب الرومانسي "مصطفى لطفي المنفلوطي"، وسُجن الصحفي "أحمد فؤاد" عشرين شهراً لنشره القصيدة، وسُجن "المنفلوطي" ستة أشهر، مع أن هناك غيره من ادعى أنه منشئها وقيل حتى بمشاركة أكثر من شخص. مرت الأيام وتكشّف في التحقيقات ظهور شخص آخر ثبت أنه هو منشئ القصيدة رغم ادعاء المنفلوطي أو اتهامه بأنه صاحبها، فقد تبين للسلطات أن وراء القصيدة الشيخ "توفيق البكري" وكان هو شيخ مشايخ الطرق الصوفية، بل أيضاً قيل إن للشيخ "محمد عبده" دوراً فيها. كل هذا يعني أننا لم نعرف كيف ظهرت القصيدة ومن صاحبها الحقيقي، وكل ما نعرفه أنها قصيدة هزّتْ مصر حينها وشغلت الصحافة والكتاب زمناً، وأغضبت الخديوي وحاشيته. إن القصيدة لم تكن تلك كل حكايتها، إنما قصتها الحقيقية بدأت لما منعت السلطة بأمر الخديوي نشر وتداول القصيدة في الصحف.. ولكن، قبل أن نحكي القصة دعوني أسرد لكم بعض أبياتها، وهي مشهورة جدا لمتتبعي الأدب المصري في القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، وتبدأ بالأبيات الرعدية الآتية: قدومٌ، ولكن لا أقول سعيدُ ومُلـْكٌ وإن طال المدى سيـبيـدُ تذكرنا رؤياكَ أيام أُنزلت علينا خطوبٌ من جدودِك سودُ وعرفت القصيدة تلك لشهرتها بقصيدة الهجو، ووصفتها الصحافةُ الرسمية بأنها "قصيدة السفهاء"، لأن أكثر من شخص ساهم فيها (ولا أحد يبدو أو بدا عليه السفَه) وانقسم الرأي العام حولها، واهتزت لها دوائر القصر والاستعمار.. وكادت تضمحل، بل كثر منتقدوها مع تواصل الحملة ضدها.. إلى أن حصل شيء. والشيء الذي حصل هو أن القصيدة جاء أمرٌ بمنعها تماما.. وهنا كان النصر المبين للقصيدة، فانتشرتْ كانتشار النار في قشٍّ يابس في يوم عاصف، ولم يبق شخصٌ يقرأ أو يسمع أو يحفظ في القطر المصري، وكانت السودان تابعة له، لم يسمع عنها.. إن المنعَ كان الوقيدُ الذي أضرم نار الانتشار والشهرة. في تلك الأيام كما تعلمون لم توجد وسائل النسخ والتصوير، فعمد الناس والخطاطون إلى إعادة كتابتها بالعشرات، ثم المئات، ثم بالألوف، ثم عشرات الألوف، بل إنهم وجدوا وسائل ماكرة حتى في نشرها بالصحف الرسمية التي كانت تفتقد الذكاء لأنها تنفذ الأوامر حرفياً، وكانت الأوامر إما منعاً، وإما قبولاً لذم القصيدة.. والماكرون لا تضيق عليهم الحيَل، فقد احتال "سليم سركس" على إعادة نشر القصيدة، فماذا عمل؟ كلف شاعراً اسمه "عثمان الموصلي" فشطّر القصيدة، بطريقة الهجو والرد عليها، وتمكن نشرها داخل أقواس، فقرأها الناس بالأقواس وتجاوزوا ما جاء بالرد، كالتالي: (قدوم ولكن أقول غير سعيد) على فاجرٍ، هجوَ الملوك يريدُ لأضرابه بيتٌ من اللؤم عامرٌ (وملك وإن طال المدى سيبيدُ) وترى أن قراءة ما بين الأقواس هو نشرٌ حقيقيٌ للقصيدة الممنوعة من النشر، وأمام أعين رقباء السلطة وفي صحفهم! والعبرة هي ما نقول كل مرة: إن أردت انتشاراً لشيءٍ فامنعه. فقط.. ليس إلا!
إنشرها