Author

إصلاح الجهاز الحكومي .. الخطوة الأولى

|
تحدثت في الأسبوع الماضي عن نموذج الإصلاح الاقتصادي المفقود، وعن أهمية أن تكون هناك شمولية في عملية الإصلاح الهيكلي، وتناغم في الوقت نفسه بين جوانبه المختلفة، كإصلاح سوق العمل، وإصلاح المنافسة، وأسواق المنتجات والخدمات، والصناعة، وغير ذلك من الجوانب الاقتصادية التي تعزز وتحرك الإنتاجية في الاقتصاد، وتسهم بالتالي في خلق نمو اقتصادي كل عام. وضع جوانب الإصلاح الاقتصادي الهيكلي تحت مظلة واحدة سيتطلب أن يكون هناك جهاز حكومي فاعل لضمان تنسيق الجوانب المختلفة للإصلاح، وضمنا اتساقها مع بعضها، وعدم تعارض وسائلها وأهدافها التي ترغب في الوصول إليها. هذا بالتأكيد يتطلب أن يكون القطاع الحكومي جزءاً لا يتجزأ من هذا الإصلاح، كما أن كفاءة هذا الجهاز ستكون العنصر الأساسي الذي سيضمن نجاح مبادرات الإصلاح، لأن كفاءة الجهاز الحكومي في أداء مهامه ستنعكس بالتأكيد على التنفيذ والرقابة والتقييم لكل مبادرات الإصلاح. لكن الواقع يدل على أن هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به لخلق جهاز حكومي فاعل وأكثر ديناميكية، وتغيير كامل لمفاهيم العمل والإنجاز في القطاعات الحكومية المختلفة، وترسيخ لمبدأ الإنتاجية العالية، وزيادة الشفافية، وتغيير كامل لمفهوم الوظيفة الحكومية من ضمانة اجتماعية تقدمها الدولة لمواطن بعينه، إلى وسيلة لتحقيق قيمة مضافة للوطن. وهذا يتطلب تغييرا شاملا للكثير من الأمور المتعارف عليها والمتعلقة بالتوظيف وقياس الأداء، والتكليف بالأعمال، والمكافآت والترقيات، والترشيح للمناصب العليا. الجهاز الحكومي في الدول النامية يشكل في العادة عبئا كبيرا على موازنات الدول، بسبب سياسات التوظيف التي تركز على جوانب العدالة على حساب جانب الكفاءة، وبالتالي تصبح الوظيفة الحكومية ضمانة اجتماعية وسلعة عامة يسعى إليها الجميع، وهذا بدوره يؤثر بشكل كبير في مفاهيم العمل وقيمه لدى المجتمع. أضف إلى ذلك أن هذا الأسلوب في التعاطي مع الوظيفة الحكومية ينعكس على كل ما هو عام في المجتمع، كالشارع والمستشفى والمدرسة والحديقة، حيث يكون النمط السائد أنها ملكية عامة مشاعة لكل الناس الحق في الحصول عليها، دون التفكير في الدور الذي يضطلع به المواطن للإضافة إلى هذه الخدمات كي يكتسب الحق في الحصول عليها. المواطن بالطبع ليس مسؤولاً مباشرة عن شيوع مثل هذه المفاهيم، لكن منظومة الحوافز التي وضعت أمامه هي التي تدفعه للتفكير والتقييم بهذه الطريقة. زيادة كفاءة الجهاز الحكومي تتطلب مراجعة لآليات الحوافز التي يتم تبنيها في الدوائر الحكومية، وربطها مباشرة بالإنتاجية والإنجاز. بالطبع الحوافز التي توجد في الأجهزة الحكومية حالياً محدودة جداً، كما أن الأجور متدنية مقارنة بالقطاع الخاص، والسبب في ذلك تبني مفهوم الضمانة الاجتماعية للوظيفة، كما أشرت في السابق، بحيث أصبح التركيز على أرقام التوظيف بدلاً من التركيز على نوعيتها وكفاءتها وإنتاجيتها. أضف إلى ذلك، أن هذا الأمر أدى إلى تدني مستوى المسؤولية في الوظيفة الحكومية، ما ينعكس على أداء الكثير من الأعمال، وإنجاز الكثير من المشاريع وانتشار الفساد في الكثير من الأجهزة الحكومية. كل هذه الأمور نتائج مباشرة للنظرة الخاطئة سواءً من قبل المسؤول أو من قبل المواطن إلى الوظيفة الحكومية كضامن اجتماعي بدلاً من النظرة إليها كعنصر إنتاجي فاعل في المجتمع والاقتصاد. كلما فكرت في جوانب الإصلاح الهيكلي، وكلما حاولت التفكير بأي الجوانب نبدأ، وجدت أنني أصطدم بالجهاز الحكومي الكبير، الذي أصبح يمثل عبئا كبيرا على عملية التنمية الاقتصادية. إذا أردنا أن نبدأ عملية الإصلاح الهيكلي، فيجب أن نبدأ من القطاع الحكومي نفسه. القطاع الحكومي الآن لا يستطيع المنافسة مع القطاع الخاص على استقطاب الكفاءات، ما يعني أنه سينتهي بتوظيف الأشخاص الأقل كفاءة، وهم من سيقومون بصنع السياسات للاقتصاد ككل. هذه ظاهرة تدعو للقلق، وتتطلب من جميع الجهات ذات العلاقة بحثها والتحري عنها ومحاولة التصدي لها. الدول التي استطاعت أن تخرج من بوتقة الدول النامية إلى الدول المتقدمة، كالعديد من الدول الآسيوية، تجد أن القطاعات الحكومية فيها تنافس القطاع الخاص على استقطاب الكفاءات، ما انعكس بشكل كبير على مستوى المسؤولية والإنتاجية في هذه القطاعات. إذا أردنا تنمية وإصلاحا هيكليا حقيقيا فيجب أن نحقق ذلك من خلال القيام بعملية إصلاح شامل للقطاعات الحكومية ككل. بهذه الطريقة وحدها سيمكن لنا أن نبني اقتصادا متنوعا وذا إنتاجية عالية وقطاعا خاصا قادرا على خلق المزيد من الوظائف.
إنشرها