Author

ريادة الأعمال.. المشاريع الحكومية أولا

|
المتأمل للاقتصاد الوطني يجد أن هناك الكثير من التناقضات خارج المنطق ولا تتفق مع متطلبات الواقع الاجتماعي. فهناك إنفاق سخي من جانب الدولة يطول جميع مجالات الاقتصاد وفي الوقت ذ اته ارتفاع مستمر لنسبة البطالة، هناك مشاريع باهظة التكلفة، إلا أنها قاصرة عن تلبية احتياجات المواطنين كما ونوعا وجودة، هناك نوايا صادقة وعزيمة على رفع مستوى معيشة المواطن، إلا أن الاستفادة من الإنفاق والمشاريع الحكومية تنحصر في نسبة قليلة من النخب الاقتصادية، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة ومراجعة ليس فقط من أجل إعادة توزيع الدخل وتوسيع دائرة الاستفادة من الإنفاق الحكومي وحسب، ولكن أيضا تغيير ثقافة الوفرة والاعتقاد السائد لدى الشباب أن على الحكومة توفير الوظائف لهم بدلاً من السعي بجد واجتهاد للبحث عن الفرص في العمل الحر. التفكير المسيطر على الشباب هو الحصول على الوظيفة، وهو نتيجة حتمية لتربية الأبناء في معظم الأسر على أن الوظيفة هي السبيل الوحيد للعمل، فما إن يبلغ الشاب مرحلة الثانوية أو حتى قبل ذلك إلا ويتم توجيهه ليعد نفسه للوظيفة والعمل لدى الآخرين وليس إعداده لإنشاء مشروع خاص مبتكر وعمل حر يقدم خدمات جديدة. بطبيعة الحال ليس الكل مهيأ لخوض تجربة العمل الحر فهي تتطلب الإبداع والابتكار والشجاعة والإقدام والمغامرة المحسوبة وحبا جارفا نحو الانطلاق وسبر أغوار المستقبل، وتحقيق الرؤى والأحلام والطموحات، والصبر على التحديات وتحمل الأخطاء، والاعتقاد الجازم أنه بالعمل الجاد والاجتهاد سيصل يوما ما لغايته وتحقيق أحلامه وطموحاته مهما كانت الظروف والعوائق. هؤلاء هم المبادرون الذين يثقون بأنفسهم ويرون أن باستطاعتهم تقديم شيء يغير العالم من حولهم ويجعله مكانا أفضل للعيش والعمل. المبادرون أناس غير اعتياديين يبرزون من بيننا وفي كل المجالات سواء كان ذلك في التجارة أو في السياسة والاقتصاد أو في الأعمال الخيرية والطوعية وغيرها. ويأتي في أعلى القائمة الرسل والأنبياء وفي مقدمتهم محمد ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ الذي أحدث تغييرا اجتماعيا جذريا غير وجه التاريخ في فترة قصيرة تقارب العقدين استمر بعده أكثر من 14 قرنا بذات النهج الذي اختطه لتبقى سنته خالدة أبد الدهر. ولذا لم يكن مستغربا أن يختاره الكاتب الأمريكي مايكل هارت في كتابه ''أعظم 100 رجل: تقويم لأعظم الناس أثرا في التاريخ''. ويضعه في أول القائمة. والمطلع على سيرته ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ يرى حقيقة أنه حول القبائل العربية الوثنية المتناحرة والمغلوبة على أمرها من دولتي الفرس والروم إلى دولة حضارية مهابة وعزيزة تنشر الخير والعدل والرحمة والسلام في ربوع المعمورة. وهذا دليل على أن المبادرين الرواد هم عناصر التغيير في المجتمع وهم من يقود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والقوة المحركة التي تصنع الدول والأمثلة في وقتنا المعاصر كثيرة، فالملك عبد العزيز ـــ يرحمه الله ـــ استطاع توحيد كيان السعودية وبدأ مشروعه الوحدوي وهو لا يملك المال ولا العتاد، وربما رأى البعض أن تحرير الرياض مجازفة ومخاطرة كبيرة، وهو ما كان يدركه ويعيه، ولو لم تكن لديه العزيمة والهمة العالية والإيمان العميق في تحقيق حلمه لما أقدم على ذلك. لقد اعتاد الجيل الأول أن يتحمل المسؤولية وأن يواجه تحديات الحياة بمبادرات شخصية وأفكار إبداعية تخفف من وطأة الظروف القاسية وشظف العيش، وكانت الثقافة السائدة آنذاك هي الاعتماد على النفس والمبادرة بالعطاء. إلا أن ذلك تغير مع الطفرات الاقتصادية وطغيان المادة، وأصبح لدى الكثيرين اعتقاد في أن الحياة سهلة وخبت الدافعية في النفوس واضمحل الرغبة في الإنجاز والبحث عن الأفضل. وربما هذا ما يبرر تفضيل الشباب الوظيفة الحكومية وما تمنحه من أمن وظيفي ودخل مستقر ومستمر. وهكذا صار هم الشاب منذ نعومة أظفاره وحتى التخرج من الجامعة أو المعهد أن يحصل على وظيفة ويعمل لدى الغير. هذا الوضع تجذر في المجتمع وأصبح جزءا من الثقافة العامة والأصل وليس الاستثناء. الابتعاد عن العمل الحر وتزايد الطلب على الوظيفة أدى إلى تفاقم مشكلة البطالة، وكان لا بد من إعادة تثقيف المجتمع والعودة إلى الأصل بتعزيز مفهوم العمل الحر واستكشاف الرواد وأصحاب المبادرات والأفكار الجديدة الإبداعية ومساعدتهم ودعمهم نحو تحقيق مشروعاتهم الصغيرة وتحقيق أحلامهم وطموحاتهم ليكون أمثلة يقتدى بها ولتتكرر التجارب الناجحة وتتسع دائرة الراغبين في المبادرة في إنشاء مشاريعهم الخاصة. إلا أن ذلك يستدعي وضع سياسات حكومية داعمة توازن بين الأمن الوظيفي والأمن في مزاولة الأعمال الحرة ووضع البواعث التي تشجع على الإقدام في تقديم منتجات لم تعهد من قبل. ولا شك أن ريادة الأعمال على ما تجلبه من منافع وأرباح كبيرة إلا أنها أيضا محفوفة بالمخاطر الكبيرة فنسبة النجاح فيها ضئيلة جدا، ولذا لا يستطيعها إلا القليلون من ذوي الصفات الريادية المميزة الذين لا يرون في الفشل والأخطاء إلا فرصا جديدة للنجاح. هذه الصعوبات والتحديات تقف حجر عثرة أمام الشباب في خوض غمار التجربة الريادية والتخوف من فشل المشروع الصغير في ظل ثقافة اجتماعية ترى الفشل سبة وأمرا غير مقبول حتى وإن كان في مبادرة شجاعة. لهذا قد يستلزم التحول إلى ثقافة ريادة الأعمال سياسات حكومية تضمن قدرا من فرص النجاح وتقدم بعض الضمانات مع الإبقاء على نسبة من المخاطر يتحملها الشاب، كما قد يكون من المناسب منح المشاريع الصغيرة نسبة من المشتريات الحكومية والمشروعات العامة مع اشتراط أن تكون تلك الشركات مملوكة وتدار، وجميع من يعمل بها هم من المواطنين. سينتج عن ذلك إقبال أكبر على الأعمال الحرة وستكون آلية فاعلة لإعادة توزيع الدخل وتقلل من وطأة مشكلة البطالة، بل وربما خفضها إلى أدنى مستوياتها على المدى الطويل، هذا إضافة إلى المساهمة في تنمية وتقوية الاقتصاد الوطني بإنتاج سلع جديدة تعزز من قدرتنا التنافسية. وعلينا أن نتذكر في هذا السياق أن اقتصادنا اقتصاد ريعي يعتمد كثيرا على الإنفاق الحكومي، وأن القطاع الخاص مازال قاصرا ولم يبلغ سن الرشد، حتى تلك الشركات الكبيرة ذائعة الصيت تعتمد في نشاطها على المشروعات الحكومية. فهل تمنح الشركات الصغيرة وأصحابها الرواد المبادرون الفرصة؟
إنشرها