نمو الطلب وتكاليف إنتاج السلع العالمية يقودان التضخم للصعود

نمو الطلب وتكاليف إنتاج السلع العالمية يقودان التضخم للصعود

تلقي الأزمة الأوروبية بظلالها لتولد حالة من عدم اليقين في السوق العالمية، هنا نمو هش محتمل للدولار الأمريكي مع تساؤلات حول مدى استدامته، وعلى الجانب الآخر، مخاوف بشأن هبوط سوق المساكن في الصين مع ارتفاع الديون الحكومية والخاصة. الاقتصاد العالمي يجد نفسه مرة أخرى على مفترق طرق حيث التحديات الاقتصادية مستمرة تجعل الانكماش العالمي المتجدد احتمالاً مطروحاً، بهذه العبارة تفتتح شركة ''الأهلي كابيتال'' تقريرها حول الاتجاهات العالمية المتوقعة في 2012، والذي أعدته خصيصا لـ ''الاقتصادية''. ويضيف'' معدل النمو العالمي في العام 2012 ربما سيتعرض لصدمات كبيرة متقطعة. الضغط الرئيسي يقع على منطقة اليورو، حيث اتسمت سلسلة اجتماعات طويلة بالفشل في الوصول لحل شمولي للأزمة. ومن المرجح أن الاستقرار يتوقف على البنك المركزي الأوروبي الذي ينتظر منه لعب دور أكثر حيوية كمشترٍ للسندات وبعض الديون لعدد من الاقتصادات المتسمة بالتقلب والتي تتم إعادة هيكلتها''. ويعتقد تقرير ''الأهلي كابيتال'' أن الافتراض الأساسي يبقى هو أنه في الحالات الطارئة قد يجبر صناع القرار في أوروبا على التصرف بطرق قد تتضمن جميع هذه الخيارات، ولذلك يبقى سيناريو أساسي واحد هو التخبط. على الرغم من ذلك، تكثر المخاطر السياسية. تكاليف ضبط الأوضاع المالية كبيرة ومرهقة، وعملية اتخاذ القرار تشير إلى احتمال أن ما يفعله القادة الأوروبيون قليلٌ جداً ومتأخرٌ جداً. خطر ''التفكك العظيم'' الناتج عن التخلف عن السداد بشكل كبير نتيجة لعمليات المضاربة، وانتشار العدوى، سيناريو مطروح وسيكون من شأنه ـــ وفق التقرير ــــ الوصول لهبوط في الاقتصاد الأوروبي ضمن ركود يتزامن مع خسائر كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي ومعدل بطالة مرتفع، وبطبيعة الحال، قد يؤدي ذلك لضرب اقتصادات أخرى من خلال معدلات الثقة، والتمويل، والتبادلات التجارية، ومنها الاقتصادات الناشئة بما فيها الصين، إذ إن الاتحاد الأوروبي يعد شريكاً تجارياً رائداً. وهنا بقية ملامح التقرير: الأسواق الناشئة عقب الأزمة التي عصفت بالعالم عام 2008، أسست الأسواق الناشئة نفسها للمرة الأولى كمناطق حصانة حقيقية ومصادر رئيسة لنمو الاقتصاد العالمي. مفهوم ''الأسواق المحفوفة بالمخاطر'' القديم تم استبداله بشكل مخادع بفكرة عدم الاقتران، والتي تنص على أن الأسواق الناشئة تعتبر في مأمن إلى حد كبير من المشاكل التي تحدث في العالم بفضل عوامل النمو الاقتصادي الكامنة داخلها. حصينة لكنها ليست منيعة. بعيداً عن الإطار العام المتسم بالحصانة، نمو الأسواق الناشئة يظهر إشارات ضعف بسبب سياسة التقشف (ترجع جزئياً لإجراءاتها التحفيزية خلال الأزمة السابقة) مضافاً إليها التقلب العالمي، مع اعتبار الوضع السيادي في أوروبا عامل خطر رئيس. معدل النمو في الصين انخفض خلال العام الحالي ليصل إلى 9.1 في المائة في الربع الثالث من 9.5 في المائة في الربع الثاني و9.7 في المائة في الربع الأول. كإشارة أكثر إيجابية بالنسبة للاقتصاد، فقد أظهرت الضغوط التضخمية بعض بوادر التراجع مع انخفاض التضخم الاسمي من 6.5 في المائة في تموز (يوليو) إلى 5.5 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر). ضغوط الأسعار الأكثر ضعفاً ترجع جزئياً إلى تأثيرات الجهود الحكومية لتهدئة سوق المساكن عبر تشديد شروط الإقراض وفرض ضرائب مختارة على قطاع العقار. في إطار أوسع، ساهمت سياسة التشديد في كافة الدول الناشئة بإضعاف ضغوط التضخم. يفرض التضخم نفسه ليكون إشكالاً أساسياً في العديد من الأسواق الناشئة. فعلى سبيل المثال، تضخم أسعار السلع الغذائية في الهند رغم بوادر الاستقرار ما زال يتألف من رقمين. لكن التركيز انتقل من مخاوف التضخم إلى قلق بشأن معدل النمو لما تبقى من عام 2011 وأوائل عام 2012. معدل النمو توقف بسبب الضعف الاقتصادي الحقيقي الناجم عن التباطؤ في أوروبا وأمريكا، وبالنتيجة كان هناك انكماش في مجال التصنيع وانخفاض في حجم أعمال التصدير الجديدة. أما بالنسبة للقروض الخارجية، فهي أيضاً معرضة لخطر الانكماش في حين أن البنوك الأوروبية تواجه موازنات أضعف. مطالبات البنوك الأوروبية لآسيا، ما عدا اليابان، تبلغ 1.4 تريليون دولار، وفقاً لبيانات بنك التسويات الدولي. وفي حال تعمقت المشكلة في أوروبا وتعمق تشدد البنوك، فقد يلجأون إلى سحب بعض من تلك القروض دون إنذار مسبق، وترك آسيا عرضة لتدفق مفاجئ لرأس المال إلى الخارج، وعلى الرغم من صعوبة التكهن بإمكانية حدوث ذلك ووقت حدوثه، فإن العواقب ستكون وخيمة، لا سيما في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على قدرات الإقراض من البنوك الأوروبية، مثل سنغافورة، وماليزيا. أما اقتصادات مجلس التعاون الخليجي، فمن المرجح أن يتراجع تأثير حزم التحفيز الحكومية التي قادت تلك الاقتصادات نحو النمو هذا العام. ومع ذلك، من المرجح أن تحتفظ الحكومات بهامش حرية في الإنفاق على خلفية الشكوك التي تسود الاقتصاد العالمي. كذلك، قد يفقد قطاع النفط زخمه الإيجابي بسبب تعافي الاقتصاد الليبي وانخفاض ضغوط الطلب. رغم ذلك، نحن نتوقع أن تظل أسعار النفط منيعة إلى حد ما. فانتعاش القطاع الخاص الذي طال انتظاره قد يبقى دون حراك في بيئة تتعرض لضغوط حالة عدم اليقين في الخارج. رغم ذلك، نحن نتوقع أن يستمر الإقراض المصرفي في السير نحو الحافة، في سعي لمنع حدوث صدمات كبيرة، كما نتوقع أن تتحسن مستويات الثقة بشكل مطرد. وترتبط أهم نقاط الضعف بمتطلبات إعادة تمويل الديون الكبيرة، خاصة في دبي. وعلى الرغم من أن الإمارة استطاعت التعامل مع الضغوط الأكثر إلحاحاً، إلا أن تكلفة إعادة التمويل قد ترتفع نتيجة لدخول السوق في مرحلة صعبة أكثر تحدياً. الخطر الرئيس في الاقتصادات الخليجية الخطر الرئيس الذي تواجهه الاقتصادات الخليجية هو النفور المتجدد من المخاطر الذي يسبب هروب المستثمرين إلى ملاذات آمنة، وسيحد بشكل كبير من توافر رأس المال للاستثمارات الجديدة التي تعتبر أكثر خطورة. ويبدو أن الاقتصادات الناشئة، وفي مقدمتها الصين، ستستمر في لعب دور حيوي في بعض الأسواق الخارجية، وذلك يعود إلى حد كبير لسعيها الاستراتيجي للحصول على مواد خام. الاستقرار الاجتماعي يشكل علامة استفهام أخرى. ورغم أن ضغوط التضخم العالمية قد تضاءلت، فهي مرشحة للعودة بسرعة إذا ما حدثت أي اضطرابات في السوق. وبشكل عام، يبدو أن النمو الاقتصادي في الأسواق الناشئة سيتعرض للإرباك خلال الأشهر القليلة المقبلة، ليزيد من احتمالية خفض أسعار الفائدة والزيادة الكبيرة في الإنفاق التحفيزي الذي قد يمهد في نهاية المطاف لتعافٍ قوي في النصف الثاني من 2012. النمو القوي في هذه الأسواق التي تتميز بعدد السكان الكبير في كل منها يعني طلباً أكثر على السلع وعودة المخاوف التضخمية. وعلى خلفية التضخم الكبير في سعر الأصول، فإن مثل هذه التطورات قد تهدد بتآكل الثقة وانخفاض معايير المعيشة لدى شرائح كبيرة من السكان. وقد تكون تدابير السياسة العامة محدودة أكثر هذه المرة بسبب حجم الجولة الأخيرة من الحوافز، فضلاً عن الجهود الجارية لإعادة التوازن للاقتصادات بعد أزمة 2008 و2009. وفي حال تنامت التحديات الاقتصادية العالمية مرة أخرى في 2012، فلن تكون الأسواق الناشئة محصنة ضدها. تزايد استخدام الموارد العالمية واستقرار الأسعار متأثرة بأخبار الاقتصادات العالمية، فإن السلع الأساسية في اتجاه تصاعدي مما يظهر بوادر للتسارع حسب الطلب على المواد الخام، بما في ذلك السلع الغذائية الرئيسة. إضافة إلى ذلك، فإن وضع التنمية في العديد من الاقتصادات الناشئة يستهلك الموارد بشراهة، التي غالباً ما تدعمها حزم المساعدات السخية، إلا أن دعم الأسعار سيستمر، خصوصاً مع ارتفاع مستوى المعيشة يزيد معدل الاستهلاك بما في ذلك زيادة استهلاك السلع الغذائية. في الوقت نفسه، يواجه جانب العرض تحديات لمواكبة هذا الطلب. وهذا بالتحديد هو مصدر القلق الخاص بالموارد المتجددة التي غالباً ما يكون فيها فائض طفيف يمكن تسويقه. وكأحد المؤشرات الرئيسة لصحة الاقتصاد العالمي، بات من الواضح أن المعادن التي تدخل في الصناعة، وعلى رأسها النحاس، تتحمل العبء الأكبر الناجم عن التشاؤم المتنامي حيال ظروف السوق ومستقبل الاقتصاد. ومن غير المحتمل أن تتحسن المشاعر السلبية في هذا المجال على المدى القريب، مما يدفع إلى تقليص العرض وخفض المخزون من قبل شركات التنقيب. انخفاض نمو العرض مدفوعاً بالطلب المتضائل سيقود لعجز محتمل في المعروض من المعادن الصناعية في حال واكب النمو وتيرة الطلب المتسارعة مرة أخرى، وأسعار السلع الرئيسة ستزود أصحاب المصانع في العالم الناشئ بفرصة لإعادة بناء مخزوناتهم، وخاصة في الصين، والتي تشارف عملية خفض المخزونات فيها على الانتهاء. على صعيد الطاقة، يستمر عدم اليقين في سوق النفط بالتأثر بشكل كبير من قبل الاتجاهات المتقلبة حيال مستقبل النمو الاقتصادي. مؤشر OVX، وهو مقياس لعدم اليقين لخام وسط تكساس الوسيط، ومؤشر VIX الذي يقيس التقلب المطبق على 500 من أكبر الشركات المدرجة في البورصات الأمريكية، وواصلت التحرك بخطوات ثابتة، وهو ما حدث خلال الأزمة الأخيرة. وعلى المدى البعيد، ارتفع استخدام الطاقة عالمياً بوتيرة متسارعة، متأثراً بمساهمة أكبر اقتصادين ناشئين، هما الهند والصين، بشكل كبير في هذا المجال. (الصين هي أكبر مستهلك للنفط في العالم اليوم). وبصرف النظر عن ارتفاع مستويات الدخل، فقد أدى دعم قطاع الوقود أيضاً إلى نمو استهلاك الطاقة في الأسواق الناشئة. الحضور واسع النطاق للصناعات التي تعتمد بكثافة على الطاقة وارتفاع مبيعات السيارات دليل على ذلك. على الرغم من ذلك، لم يستطع العرض اللحاق بوتيرة الطلب المتسارعة، لكن معدل النمو السنوي التراكمي لاستهلاك النفط الخام عالمياً سجل 1.3 في المائة خلال الفترة من 2000 إلى 2010، والرقم المقابل من إنتاج النفط كان أقل عند 0.9 في المائة. أضف إلى ذلك، أنه تم استنزاف احتياطي الدول غير الأعضاء في منظمة أوبك بمعدل أسرع، ويشير الخبراء إلى أن إنتاج النفط العالمي وصل ذروته. وفي عام 2012، وباعتبارها أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، فقد تعاني المملكة انخفاضا من عائدات النفط على خلفية النمو العالمي الراكد، وسيكون هناك خفض محتمل في فائض الحساب الجاري والفائض التجاري. وفي حين أن 55 في المائة من صادرات المملكة النفطية تذهب لدول القارة الآسيوية، فقد ترى المملكة نمواً معتدلاً في عائدات النفط والغاز في المستقبل القريب. على الرغم من ذلك، لا يزال هناك عجز بين العرض والطلب في سوق النفط حالياً، مما ينذر بسوق ذات أفق ضيق. من ناحية العرض، هناك قصة لسعر الدعم. وفي ظل استمرار أسعار النفط في مواجهة الضغوط السعرية صعوداً بسبب حالة عدم اليقين الناتجة عن الاضطرابات الجيوسياسية الحالية في الدول المنتجة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبتشديد العقوبات على إيران، ربما تبقى أسعار النفط مرتفعة. ارتفعت معدلات الاستهلاك الغذائي بوتيرة سريعة خلال العقد الماضي، وقد ساهمت الاقتصادات الناشئة بشكل كبير في هذا الارتفاع، حيث أدى ارتفاع المداخيل في تلك الدول إلى ارتفاع الطلب على الغذاء. هذا وقد أثر ذلك الارتفاع في المداخيل على النمط الاستهلاكي كذلك، حيث تحول الطلب المرتفع إلى الأغذية البروتينية (اللحوم) والفواكه والخضراوات بعد أن كانت الحبوب تمثل نسبة عالية من إجمالي الاستهلاك، ليعكس تغيراً عالمياً في تركيبة الحمية الغذائية للفرد. وفي مقابل هذا، لم يرتفع حجم الإمدادات الغذائية مقابل الزيادة في الطلب، خاصة في ظل ركود الاستثمارات والابتكارات في المجال الزراعي. أدت تلك العوامل مجتمعة، سواء ضعف الإمدادات أو الكوارث الطبيعية في البلدان المنتجة للغذاء، خلفت كلها أثرا كبيرا على الأسعار العالمية. لذلك، لا يمكن توقع سيناريو أفضل، فيما يخص أسعار السلع، من تصحيح قصير المدى مدفوعا بعوامل متعلقة بالطلب. ولكن، تظل الأسعار منقادة نحو الارتفاع بفضل عاملين. ومن المتوقع أن نشهد ارتفاعا كبيرا مستمرا في معدلات نمو الطلب تقوده الاقتصادات الناشئة. بينما تكاليف الإنتاج والاستخراج تظل في ميل تصاعدي، وبوتيرة سريعة في بعض الأحيان. وهذا يؤسس لبيئة يصعب فيها تصحيح الأسعار، خاصة في ظل استثمارات غير مشجعة لا تتناسب مع حجم الاستثمار المطلوب لتلبية حجم الطلب. مع ضعف الموارد، أثر ارتفاع الطلب على الأسعار، وارتفعت أسعار الطاقة والغذاء بشكل كبير. وأدى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء إلى انتشار تضخم استهلاكي على مستوى العالم، ما عقّد إمكانية صياغة السياسات، خاصة في ظل ظروف النمو المتدني والاضطراب الاقتصادي. وهددت أسعار الغذاء المرتفعة خطط مكافحة الفقر. بينما لم تبرز ابتكارات قد تساهم في خفض الأسعار، وتخفيض مستويات الإنفاق الحكومي بسبب التقشف قد يضر بمسيرة الأبحاث والدراسات في هذا القطاع. مع أنه تم تطوير بدائل صحية كالطاقة التي تنتجها الرياح، (ولم يحدث الشيء نفسه مع الطاقة الشمسية)، إلا أن المردود الاقتصادي للطاقة التي تنتجها الرياح غالباً ما يكون منخفضا. ومن المفارقات، أن دول الخليج العربي الغنية بالنفط قد تكون هي الأقدر على تطوير مصادر للطاقة البديلة والمتجددة في المستقبل. وستكشف لنا حظوظ مدينة (مصدر) في أبو ظبي خلال المستقبل القريب وغيرها من المدن المشابهة في الخليج العربي ما يمكن أن تحمله تلك التجارب من إيجابيات اقتصادية. خلال الوضع الحالي الذي يشهده العالم من ارتفاع في مستويات الطلب، قد تتسبب سياسات الحماية الاقتصادية في الدول الغنية بالموارد في زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي، وفي حالات قصوى قد تتسبب بنشوء خلافات. لهذا، يمثل الأمن الغذائي في الدول المعتمدة على الاستيراد كدول الخليج أولوية قصوى، وقد ضرت عمليات حظر التصدير في الماضي، كما فعلت الهند بحظر تصدير الأرز عام 2008، بتلك الدول. فبينما قد تعود عمليات كهذه بالمصلحة الكبيرة على القارة ككل، إلا أنها تفتح المجال لمخاطر ''تلاعبات'' اقتصادية ضخمة.
إنشرها

أضف تعليق