FINANCIAL TIMES

«الربيع العربي» يجبر الأسواق على تغيير تحليلاتها

«الربيع العربي» يجبر الأسواق على تغيير تحليلاتها

الشرارة التي أشعلت الربيع العربي والتي انطلقت من تونس، أيقظت جيلاً من الشباب العربي من سبات طويل وغير مريح وغير مجرى التاريخ العربي الجانب اللافت أكثر من غيره في حياة محمد البوعزيزي هو كونها حياة عادية جداً. لقد كان عربياً عادياً في السادسة والعشرين من عمره يحاول أن يكسب عيشه في بلدة تونسية مغمورة، بائع فواكه وخضراوات يتمثل طموحه في توفير ما يكفي من المال لشراء سيارة. وكان ينفق أرباحه اليومية الضئيلة لإعالة أسرته. ولن يعرف أحد بالطبع ما الذي كان يدور في خلده عندما اشترى قارورة بنزين وأحرق نفسه حياً. لكن صباح اليوم الذي أقدم فيه على الانتحار في 17 كانون الأول (ديسمبر) كان صراعاً شبيهاً بصراع كافكا لاستعادة العربة التي صادرتها الشرطة. كان يتم توجيهه من مكتب حكومي إلى آخر. وكان عند عتبة باب مكتب المحافظ أن تفجر يأسه أخيراً، مطلقاً العنان لاحتجاجه الشخصي المعذب. وبينما وافته المنية متأثراً بجروحه بعد أسبوعين، سوف تظل ذكراه ماثلة في الأذهان إلى الأبد باعتباره الشرارة التي أشعلت الربيع العربي. وبعمل مأساوي واحد، أيقظ جيلاً من الشباب العربي من سبات طويل وغير مريح وغير مجرى التاريخ العربي. لقد أدت الشعلة التي أضاءها في بلدة سيدي بوزيد غير المعروفة إلى الإطاحة بالدكتاتور الذي كان يحكم البلد وسرعان ما انتشرت إلى مصر، وليبيا، واليمن، وسورية، حيث حطمت الانتفاضات بقيادة الشباب- والتي ما زال بعضها مضطرماً – نظاماً استبدادياً قائماً منذ عقود. وفي سياق ما قام به، حطم افتراضات قائمة منذ أمد طويل بنت عليها القوى العالمية سياساتها في المنطقة، وأسست الأسواق المالية تحليلها عليها- وهي أن حكم الفرد هو مفتاح الاستقرار. ومع تدفق الشباب إلى الشوارع في موجة بشرية مسالمة الى حد بعيد تتسم بالغضب والشجاعة، متحدين الدبابات والرصاص ومتجاهلين التعذيب الذي قد يتعرضون له على أيدي الشرطة التي لا ترحم، أثبتوا أنهم لا يختلفون عن نظرائهم الغربيين، يطمحون لاعتناق نفس قيم الحرية والديمقراطية. مثل البوعزيزي رمزاً للانحدار ولما يدعوه العرب الإحباط، وهو ما يعتبر لعنة الجيل. وفي الحقيقة، كان يمكن لعملية حرقه لنفسه أن تمر من دون أن تلاحظ - كان يمكن أن يكون مجرد ضحية أخرى لسوء المعاملة في دولة بوليسية قمعت المجتمع لدرجة افترضت معها أنه أصبح فاقداً للحس. لكن تحت سطح الهدوء الذي كانت تظهره تونس، وهي صورة تقبلها الغرب على نحو خاطئ جداً، كان الكثير من الشباب والشابات ينتظرون شرارة. لقد تم انتهاز انتحار البوعزيزي من قبل شبكة من الشباب الواعين من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل ممن قاموا بإرسال صور الاحتجاجات لقناة الجزيرة التي تغطي العالم العربي ولديها قدرة فريدة على التعبئة في المنطقة، وقاموا أيضا بنشرها على موقع ''فيس بوك''. في غضون شهر، وصلت الاحتجاجات إلى تونس العاصمة وهرب الرئيس زين العابدين بن علي وعائلته الفاسدة إلى خارج البلاد. وكان الشباب المصريون يراقبون ما يجري بإعجاب وسألوا أنفسهم، لماذا لا نفعل الشيء نفسه؟ وبعد 11 يوماً من سقوط بن علي، جلب أطفال البلد الأكثر سكاناً في المنطقة الثورة إلى قلب العالم العربي. يقول الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله إن حالة البوعزيزي وجدت هذا الصدى القوي لأنها مثلت حاجتين أساسيتين لكنهما مفقودتان بالنسبة للشاب العربي''. الحاجة الأولى هي البحث عن الكرامة التي كان الشعب يحاول استردادها على مدى الأربعين أو الخمسين عاماً الماضية. لقد أخبرهم البوعزيزي بأن عليهم أن يثوروا لاستعادة تلك الكرامة''، كما يقول. والحاجة الأخرى أنه كان يمثل عشرات الملايين من الشباب العربي الذين كانوا بحاجة إلى الوظائف، الذين كانوا يريدون الوظائف، وقادرين على القيام بالوظائف لكن لم يكن بمستطاعهم العثور عليها. إن كل ما كان يريده هو أن يكون بائع فواكه ولم يكن باستطاعته أن يكون له ذلك حتى''. صحيح أن أحداً لم يكن يتوقع حدوث انفجار في العالم العربي في هذا الوقت بالذات لكن أعراض مرض يصيب الشباب كانت قد شخصت عاماً بعد آخر من قبل الأكاديميين ورجال الأعمال، ومن قبل المؤسسات متعددة الأطراف ومن قبل الحكومات الشمولية نفسها. كانت الإحصائيات تحكي جزءاً من القصة: أكثر من نصف السكان تحت سن 30 عاماً وبطالة الشباب الأعلى في العالم . وحتى أولئك الذين سعوا للحصول على تعليم أعلى – وكانت أعدادهم تتنامى – ودخلوا أسواق وظائف لم يكونوا يفيدونها إلا القليل. ففي تقرير نشر قبل أشهر من وقوع مأساة البوعزيزي، حذر البنك الدولي أن ''عدم الاستثمار في الشباب، وبخاصة عدم إيجاد الوظائف المطلوبة لهم، سيجعل الشباب أكثر عرضة للاختراق ولخطر التهميش، ما يخلق أجيالا من المواطنين الخاملين... عرضة للظواهر الاجتماعية السلبية ويتطلب استثمارات أعلى بكثير لكي تتعافى''. لكن الشباب العربي كان قد وصل بالفعل إلى مرحلة الانسلاخ تلك وكان غضبهم واستياؤهم حادين بشكل خاص في البلدان التي كان زعماؤها على استعداد لارتكاب الإهانة الكبرى ونقل السلطة لأبنائهم تخليداً لحكمهم القمعي''. لقد أشعل البوعزيزي الوقود الذي كان موجوداً منذ زمن طويل، تراكم الإحباطات، من البطالة إلى عدم القدرة على التعبير عن نفسك، من هجرة الشباب إلى القمع الذي تمارسه الدولة''، كما يقول خالد ابن الثمانية وعشرين عاماً، وهو ناشط من سورية التي دخلت الثورة فيها شهرها العاشر. الأمر الذي لم يدركه النظام السوري والأنظمة المشابهة له، كما يقول، هو أن الشباب العربي كانوا يقيمون روابط مفيدة مع بعضهم البعض من خلال مواقع وسائل الإعلام الاجتماعية، وهو اتصال فعلي كانت تتدفق عليهم فيه المعلومات وكان بإمكانهم تبادل النصائح الثورية. وكان بعض الشباب والشابات أيضاً قد حضروا ورشات عمل عن المقاومة السلمية، وكانوا يطبقون الدروس في ميدان التحرير ويتشاركون فيها مع الناشطين العرب. وفي سورية، يتواصل الناشطون عبر موقع ''سكايب'' وواجهوا التعتيم على المعلومات بإرسال فيديوهات الاحتجاجات المسجلة على الهواتف الجوالة. يقول خالد: ''اعتقدت الأنظمة أن الشباب بعيد كل البعد عن السياسة. وهي لم تلاحظ أن الشباب كانوا يتواصلون فيما بينهم، وأن لديهم طموحات، وأنهم واعون، وأنهم أكثر وعياً من المعارضة التقليدية''. التحول السياسي الذي أشعل شرارته البوعزيزي كان في حقيقة الأمر ثورة شبابية واسعة ضد النخبة السياسية، بما فيها المعارضة التقليدية. وفي بعض النواحي، يمكن اعتبارها رفضاً لجيل قديم خيب آمال أبنائه، ما سمح لدولة الإحباط بالاستمرار. إن مثل القومية العربية التي كان يطمح لها آباء الشباب العربي لم تصب بالإفلاس فقط بسبب الهزائم العسكرية ضد إسرائيل لكن تم استغلالها من قبل الحكام المستبدين لتبرير قمعهم. لقد كانت إحدى شهيدات الثورة المصرية سالي زهران ابنة الثالثة والعشرين. لقد قيل إنها ضربت حتى الموت في ميدان التحرير لكن تبين فيما بعد أنها سقطت من الشرفة بعد أن تجادلت مع والدتها وهددت بقتل نفسها إذا لم ُيسمح لها بالانضمام إلى الاحتجاجات. وفي معرض شجبهم للنظام القديم، أحجم الشباب العربي عن تعيين قادة لهم وذلك انطلاقاً من كرههم لأشكال السلطة التي يعتبرونها قابلة للفساد. لقد كان غياب القيادة واحداً من أقوى أسلحتهم لأن الأنظمة واجهت جموعاً تصعب السيطرة عليها وغير واعية لعقد الصفقات السياسية. وحتى عندما اقترح وائل غنيم، التنفيذي المصري في ''جوجل'' والذي أكسبته عملية اختطافه أثناء الثورة صفة البطل، أن نقل السلطة إلى نائب الرئيس المصري – وهو خطوة لا ترقى إلى استقالته – يمكن أن يكون كافياً، انقلب الشباب ضده. لقد كان ر فعل ميدان التحرير'' أنه (غنيم) قد سقط''. ربما تمثل أهم إنجاز للشباب المصري في قدرتهم على التخلص من الخوف الذي وقع الجيل الأقدم في فخه لعدة عقود. ففي أزقة سيدي بوزيد وغيرها من البلدات، كانت الاحتجاجات السلمية في النهار تفسح المجال إلى القتال في الشوارع ليلاً. وكانت نقطة التحول في مصر أيضاً يوم 28 كانون الثاني (يناير)، عندما عاد المتظاهرون بعناد لمواجهة قوات الأمن. لقد اختفت الشرطة في ذلك اليوم، ولم تعد حتى الآن إلى الشوارع بكامل قوتها. وفي وقت مبكر من هذا العام قالت توكل كرمان، الناشطة اليمنية ذات الحماس الملتهب والشخصية الساحرة، والتي كانت واحدة من ثلاث نساء حصلن على جائزة نوبل للسلام لعام 2011: ''الغريب في الأمر هو أنه حين كان المحتجون يهاجَمون بعنف، كان المزيد يأتون للاحتجاج، وكأنهم كانوا يقولون للنظام: تستطيع أن تقتلنا، لكننا لن نموت أبداً''. لكن ليبيا كانت هي البلد الذي برهن فيه الشباب، وكثير منهم لم ير في حياته رشاشاً من قبل، ناهيك عن أن يحمله في يده، برهن على أعظم قدر من الشجاعة، حيث كانوا يندفعون إلى الخطوط الأمامية بعد تدريب قصير. حتى أولئك الذين كانوا في أوائل الثلاثين أو الأربعين من أعمارهم كانوا يحبون أن يدْعوا أنفسهم ''الشباب العربي''، وهذا دليل على الجاذبية القوية لهذه الصفة حين اندلعت الثورة الليبية في آذار (مارس). وفي حين أنه ليس هناك من يجادل في الدور المذهل للشباب العربي باعتبارهم المحرك الذي يقف وراء التغيير، إلا أنه في الوقت الذي تتوجه فيه البلدان من الثورة إلى التحول السياسي فإن أعظم قوة للشباب هي في الوقت نفسه نقطة ضعفهم. ذلك أن الحركات الشبابية المبعثرة، في تركيزها على تحطيم النظام القديم، تجد نفسها في وضع لا يؤهلها للحياة السياسية. أحلام هؤلاء الشباب في حياة أكثر عدلاً وكرامة، وفي الحصول على وظائف، تتعرض لخيبة الأمل، خصوصاً بفعل الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الجيشان السياسي. وفي الوقت الذي تعُود فيه النُّخب السياسية إلى مركز الصدارة، فإن وحدة الهدف التي جمعت بينهم بصرف النظر عن الطائفة أو الأيديولوجيا هي في حالة تفكك الآن. كثير من هؤلاء الشباب، بما يتسمون به من نفاد صبر وميل إلى المبادئ المثالية، تواقون للعودة إلى الشارع عند كل خيبة أمل تصيب عملية التحول. وبنوع من الأسى يقول شادي الغزالي حرب، أحد الشباب المصريين: لا تزال الطاقة موجودة، لكننا لم ننظم أنفسنا من وجهة سياسية. كنا مشغولين بالعملية الثورية. كانت الطرق إلى السياسة مغلقة وكان الكبار، أهل النخبة، سواء من اللبراليين أو الإسلاميين، يسدون الطريق على الشباب ويحولون بينهم وبين تولي مناصب قيادية''. لكن الشباب الذين حملوا قضية البوعزيزي سيتعين عليهم التكيف. وعلى حد تعبير الأستاذ عبد الله، ''بإمكانهم أن يدَّعوا منذ الآن أنهم حققوا النصر في الإطاحة بالأنظمة القديمة، وكان هذا دورهم التاريخي. إنهم ليسوا هم الذين سيعملون على بناء النظام الجديد، فهذه مهمة ثقيلة تقع على عاتقنا جميعا، وهي مهمة ستشغلنا لمدة عشرين أو ثلاثين سنة مقبلة''.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES