Author

تقديرات الموازنات تتحيز لخفض الإيرادات والنفقات

|
قبل البدء في أي نقاش حول الموازنة يجب إيضاح الفرق بين عبارتي الميزانية والموازنة لعموم القراء، حيث يطلق لفظ الموازنة على خطة عمل إنفاق الدولة أو المنشأة قبل البدء بتنفيذها، بينما تعبر الميزانية عن الموقف المالي للدولة أو المنشأة بعد انتهاء العمليات المالية عند تاريخ معين. وتميل تقديرات الموازنة في المملكة خلال الأعوام الماضية بشكل عام نحو خفض أحجام الإيرادات والنفقات، ويلاحظ خصوصاً في السنوات الأخيرة أن تقديرات الإنفاق والإيراد في الموازنات الجديدة تقلل كثيراً وبشكل غير مقبول أحجامها المتوقعة وقت إعلان الموازنة. ومن الغريب امتداح هذا الأسلوب من بعض المختصين بوصفه متحفظا، وأعتقد أن أسلوب التحفظ المبالغ فيه والبعيد عن الواقع ليس محموداً ولا عملياً ويؤدي إلى فقدان الثقة بتقديرات الموازنة. وفيما يلي نظرة عابرة حول تطورات الإنفاق والإيراد التقديري والفعلي خلال العقد المنصرم المنتهي في عام 2010م. التحيز لخفض الإيرادات شهد العقد الماضي المنتهي بعام 2010م تطورات إيجابية ومحمودة في حجم الإيرادات النفطية بسبب ارتفاع أسعار النفط. ومن المحتمل أن تستمر هذه التطورات الإيجابية لعدة سنوات. ويلاحظ من الجدول (1) أن تقدير الإيرادات في الموازنات السابقة خلال العقد المنصرم كان دائماً أقل من الإيرادات الفعلية. وكان مقدار الانخفاض في تقدير الإيرادات شديدا في بعض السنوات، بل تجاوز 144 في المائة في عام 2008م، وهي السنة التي شهدت فيها الأسواق العالمية تسجيل أرقام قياسية لأسعار النفط. ولا يمكن إنكار مواجهة صعوبات كبيرة في تقدير الإيرادات بسبب تأرجح أسعار النفط، إلا أن تقديرات الإيرادات في العقد المنصرم تظهر تحيزاً وتعمداً واضحاً نحو خفض تقدير الإيرادات عن المحقق فعليا، حيث كان الفرق بين الإيراد الفعلي والحقيقي موجباً طوال العقد الماضي. ويأتي خفض تقدير الإيرادات من تحفظ المختصين المبالغ فيه عند تقدير إيرادات النفط. ويرجع تحفظ هؤلاء إلى التخوف من تسبب المبالغة في تقدير إيرادات النفط من رفع الإنفاق بمعدلات قوية، مما قد يؤدي إلى الوقوع في مأزق مالي إذا تراجعت أسعار النفط بقوة. ولمواجهة مخاطر انخفاض الإيرادات تقوم الدولة بتحويل مبالغ كبيرة إلى الاحتياطي العام للدولة في حالة الفوائض المالية. وتفيد تجارب السنوات الماضية بتعرض صناع القرارات لضغوط كبيرة لرفع الإنفاق عند ارتفاع الإيرادات فوق المتوقع، مما يخفض من حجم التحويلات إلى هذه الاحتياطات، ولكن هذا لا يمنع ضرورة مقاومة ضغوط رفع الإنفاق وعدم الانجراف وراء المبالغة في الإنفاق للحد من الآثار التضخمية. وسيقود التضخم إلى رفع دائم في مستوى الإنفاق العام وخفض منافع تحسن أسعار النفط، بل يؤدي إلى إحداث عجوزات مالية كبيرة في حالة تراجع أسعار النفط. وبلغ إجمالي إيرادات الدولة الفعلية خلال العقد الماضي نحو 5,35 تريليون ريال. وسجلت الإيرادات في عام 2008م أعلى مستوى لها خلال الفترة (ومن المتوقع تحطيم هذا الرقم في عام 2011م)، بينما شهد عام 2002 أقل مستوى إيرادات خلال الفترة. وقد ارتفعت إيرادات الدولة خلال العقد الماضي بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف. وجاء ارتفاع الإيرادات بسبب ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة. ويلاحظ من الجدول (1) أن الفرق بين الإيرادات الفعلية والتقديرية راوحت بين نحو 6,1 في المائة ونحو 144,7 في المائة خلال العقد المنصرم. ويمكن من خلال هذه البيانات البسيطة أن نتوقع أن إيرادات السنة القادمة ستكون أعلى من الإيرادات المتوقعة في بيانات الموازنة بما لا يقل عن 6 في المائة، وقد تصل الزيادة إلى 144 في المائة من حجم التقديرات. ونظرا للزيادة الكبيرة في أسعار النفط وارتفاع مستويات الإنتاج فإن الإيرادات في عام 2011م قد تتضاعف عن مستويات التقديرات في موازنة العام. التحيز لخفض الإنفاق ارتفع الإنفاق الحكومي الفعلي من نحو 255 مليار ريال في بداية العقد الماضي حتى بلغ نحو 645 مليار ريال في نهاية العقد المنصرم، مما يعني أنه تضاعف أكثر من مرتين ونصف خلال عشر سنوات، وسيتجاوز ثلاثة أضعاف مستوياته خلال عام 2011م. ويلاحظ من الجدول (2) أن الإنفاق الفعلي للدولة زاد بشكل مستمر عن الإنفاق المقدر في كل عام في العقد المنصرم. وبهذا فإن البيانات التقديرية للإنفاق المصدرة مع كل موازنة تظهر تحيزاً واضحاً نحو خفضه عن الإنفاق الفعلي خلال العقد الماضي. وقد راوحت نسب خفض تقديرات الإنفاق عما أنفق فعلياً ما بين 15,6 في المائة و26,8 في المائة من الإنفاق التقديري خلال الفترة. ويمكن من خلال هذه النسب تقدير الإنفاق الفعلي لعام 2011م. ولو تم اعتماد هذا النموذج المبسط فيمكن على هذا الأساس التنبؤ بأن إنفاق عام 2011م الفعلي سيصل إلى 800 مليار ريال وقد يتجاوزه بسبب ظروف الصرف الاستثنائية التي طرأت بعد الأوامر الملكية الكريمة في بداية عام 2011م. صحيح أنه من الصعب توقع رقم دقيق حول الإيرادات، ولكن ينبغي توافر صورة واضحة لدى معدي الموازنة عن خطط الإنفاق المتوقع للدولة خلال العام القادم. وعموماً فإن انخفاض الإنفاق في الأعوام القادمة عن مستوياته الفعلية في الأعوام السابقة أمر نادر الحدوث في معظم دول العالم. إن من الصعب تراجع النفقات الفعلية للسنة اللاحقة عن السنة الماضية إلا في حالة وجود خطة واضحة لخفض الإنفاق أو وجود تراجع كبير في الإيرادات. ويؤدي وضع خطط لخفض الإنفاق إلى إعطاء إشارات للأسواق بنية الحكومة تغيير سياساتها التوسعية وتبني برامج التشدد المالي. ولا يحدث هذا إلا في حالة ارتفاع العجز المالي والدين الحكومي إلى مستويات خطرة. ولا أعتقد أن الدولة ترغب في إعطاء أي مؤشرات بوجود عجز في تحقيق الإيرادات أو نية لخفض الإنفاق في ظل توافر إيرادات قوية ووجود احتياطيات كبيرة ورغبة أكيدة في تحفيز النشاط الاقتصادي. #2# هذا وقد توسعت الدولة كثيراً في الإنفاق خلال السنوات العشر الماضية. وبلغ إجمالي مصروفات الدولة الفعلية في العقد الماضي نحو 3,98 تريليون ريال. وهذا الرقم ضخم ويدل على إنفاق مبالغ مهولة من أجل توفير الخدمات الحكومية وتنفيذ برامج التنمية البشرية والاقتصادية ودعم الإنتاج المحلي ورفع مستويات الرفاهية الاجتماعية. ومع كل هذا الإنفاق إلا أن الدولة استطاعت تحقيق فائض فعلي كبير خلال العقد المنصرم وصل إلى 1,37 تريليون ريال. وقد ذهب الجزء الأكبر من هذا الفائض لبناء احتياطيات الدولة، أما الباقي فقد استخدم لسداد جزء كبير من الدين العام. التحيز لتحقيق عجز مالي أدى التحيز نحو خفض الإيرادات بدرجة تفوق التحيز نحو خفض الإيرادات إلى توقع حدوث فوائض مالية منخفضة أو عجوزات مالية أكبر. ويتضح هذا من خلال النظر إلى تقديرات الميزان المالي الحكومي خلال العقد المنصرم، حيث نجد أنها غير عملية، بل إن مجموع توقعات الموازنة خلال السنوات العشر الماضية تشير إلى وجود عجز في الموازنة يصل إلى أكثر من 130 مليار ريال في العقد الماضي. وتشير البيانات إلى تحيز توقعات موازنات الدولة إلى تحقيق عجوزات مالية طوال الفترة وهو ما يتناقض بشكل كبير مع المسجل فعليا. ونتيجةً لذلك تفقد توقعات الموازنات أهميتها في تقدير الموازين المالية، ويتم بشكل فعلي تجاهلها. إن إصدار بيانات غير واقعية عن الإيرادات والمصروفات والموازين المالية يقلل من قيمة تلك البيانات. ولهذا فمن الضروري تحسين جودة بيانات الموازنة لتكون أقرب للواقع لكسب ثقة الناس والأسواق والتأثير بإيجابية أكبر على توقعات المتغيرات الاقتصادية. متخصص في الدراسات الاقتصادية
إنشرها