Author

اليونان في عين العاصفة (1 من 2)

|
في خطوة غير محسوبة العواقب، ورغبة منه في تأمين التأييد الشعبي للحزمة المعروضة على اليونان بمقتضى قرارات القمة الأوروبية الأخيرة، قرر رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو إجراء استفتاء شعبي على حزمة الإنقاذ. باباندريو كان يهدف إلى حشد التأييد الشعبي للمضي قدما في برامج التقشف والخصخصة في حال الموافقة على الحزمة من خلال صناديق الاقتراع، دون أن يضطر إلى مواجهة المعارضة الشعبية أو الاحتجاجات المتكررة التي تندلع من وقت لآخر في اليونان على خلفية أزمتها الاقتصادية. غير أن كل من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد قرآ مقدما النتيجة المحتملة لمثل هذا الاستفتاء، وتم استدعاء باباندريو على الفور وتهديده بوقف المساعدات المالية لليونان، بل إلقاء بلاده خارج منطقة اليورو إذا لم يتم قبول الحزمة المقترحة على اليونان كما هي. بنفس الدرجة من السرعة، عاد باباندريو إلى اليونان ليعلن إلغاء الاستفتاء المزمع إجراؤه على حزمة الإنقاذ، ليتعرض نتيجة لذلك إلى اقتراع بسحب الثقة في البرلمان اليوناني اليوم الجمعة، وبغض النظر عن نتيجة الاقتراع فإنه من الواضح أن الأوضاع اليونانية آخذة في التعقد على نحو كبير. اليونان دولة طالما عاشت خارج نطاق إمكاناتها، مستفيدة في ذلك من انضمامها، المشكوك في صحة الأسس التي قام عليها، إلى الاتحاد النقدي الأوروبي، والتمويل السخي الذي حصلت عليه من البنوك الفرنسية والألمانية، قبل الأزمة، وهو ما ترتب عليه تكون جبل من الديون المتراكمة على هذا الاقتصاد الصغير، التي تفوق قدرته على خدمتها على نحو سلس. التقديرات المتاحة عن ديون اليونان تشير إلى أن إجمالي الدين القائم يصل إلى نحو 355 مليار يورو (نحو 500 مليار دولار)، منها نحو 127 مليارا يملكها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، ونحو 90 مليارا تملكها البنوك الأوروبية، ونحو 80 مليارا تملكها مؤسسات غير مصرفية خارج أوروبا. مع تصاعد مستويات المخاطر المحيطة بالدين اليوناني أخذت البنوك الأوروبية في التخلص من ممتلكاتها من هذا الدين بخسارة كبيرة، بل إن هناك أخيراً موجة تخلص من الديون السيادية من جانب البنوك في الاتحاد الأوروبي، كان من نتيجتها انخفاض القيمة السوقية للدين اليوناني بنحو 42 في المائة. عمليات البيع المكثف التي تجري حاليا لسندات الديون السيادية تؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض للدول المدينة مثل اليونان، في الوقت الذي تراجعت عمليات الإقراض لهذه الدول بصورة كبيرة، وهو ما يضع الدول مثل اليونان في موقف مالي صعب جدا. التطورات على الأرض تشير إلى أنه ما لم تستقر الأوضاع السياسية بما يؤمن الإذعان غير المشروط لخطة الإنقاذ المالي الثانية، فإن اليونان ربما تسير بخطى ثابتة نحو الإفلاس، لتجبر على ترك اليورو، ويتخلص الاتحاد النقدي الأوروبي من واحدة من أكثر مصادر الإزعاج الذي تعرض له منذ انطلاق الأزمة. فقد كانت هناك دعوات في منطقة اليورو للتخلص من عضوية اليونان في العملة الموحدة، كي تتخلص مجموعة اليورو من التزامها بالمساعدة الحتمية لاقتصاد يعيش منذ انطلاق الأزمة في غرفة الإنعاش، والسماح لليونان بحرية أكبر في الحركة على صعيد السياسة النقدية لمحاولة رفع درجة تنافسيتها، من خلال العودة للعملة اليونانية القديمة (الدراخمة) وتخفيض قيمة هذه العملة لتحسين الحساب الجاري لها. ترى إذا حدث أن اضطرت اليونان إلى إعلان إفلاسها، ماذا يتوقع أن يحدث في الاقتصاد اليوناني؟ في هذا المقال أحاول أن أرسم سيناريو تطور الأوضاع في اليونان فقط (بإهمال الآثار على المستوى الأوروبي أو الدولي، بصفة خاصة في الأسواق الدولية) وذلك عندما تضطر الحكومة اليونانية إلى إعلان إفلاس الدولة. سيناريو إفلاس اليونان بلا شك سوف يحدث آثارا مرعبة على الأجلين القصير والمتوسط، ذلك أن إحساس الجمهور بقرب الإعلان عن الإفلاس سيؤدي إلى عمليات سحب استثنائية للمودعات في البنوك، وربما تحويل هذه المودعات إلى مكان أكثر أمانا لحماية هذه المدخرات، وهو ما قد يؤدي إلى عمليات خروج ضخمة لرؤوس الأموال إلى الخارج وعجز حاد في حساب رأس المال، ما لم تقم الحكومة بفرض قيود على خروج رؤوس الأموال، وبما أنه ليس من المتوقع أن يقدم البنك المركزي الأوروبي التسهيلات اللازمة لمد البنوك اليونانية باحتياجاتها من السيولة، بسبب خروجها من اليورو، فإن ذلك سوف يؤدي إلى نقص حاد في السيولة المتاحة للجمهور، لعدم قدرة البنوك على توفيرها بالكمية المناسبة وفي التوقيت المناسب. تجربة أزمة الأرجنتين في 2001 تمدنا بكثير من الدروس في هذا المجال، فقد اضطر الجمهور إلى النوم في الشوارع أمام البنوك انتظارا لعملية إعادة تعبئة ماكينات صرف النقود للحصول على الحد الأدنى اللازم المسموح بسحبه من المودعات، وإزاء تزايد الطلب على الدولار الأمريكي، إما للتغطية ضد مخاطر انهيار البيزو وإما لتحويل المدخرات إلى الخارج، اضطرت الحكومة إلى تجميد كافة المودعات بالعملات الأجنبية في البنوك ووضع حد أقصى على عمليات السحب من الحسابات الدولارية بـ 250 دولارا فقط، وهو ما أدى إلى هجوم كاسح لجمهور المودعين على البنوك الأرجنتينية. بقية القصة معروفة وهي أن الاقتصاد الأرجنتيني دخل بصورة أعمق في حالة كساد، وتدهورت أوضاع قطاع الأعمال الخاص، خصوصا المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وانتشرت جرائم السرقة بسبب برامج التقشف وخفض الأجور، حتى تمكن الاقتصاد الأرجنتيني من تحسين أوضاعه الاقتصادية بسبب الأوضاع الاقتصادية العالمية الموائمة في ذلك الوقت. من المؤكد أن القطاع المصرفي اليوناني سوف يضطر إلى أن يغلق أبوابه أمام الجمهور لفترة محددة حتى تتم عملية إعادة هيكلة المودعات وتحويلها من مودعات باليورو إلى مودعات بالعملة الجديدة لليونان، وخلال هذه الفترة سوف تنقطع السبل بمن ليس لديهم كميات كافية من السيولة أو وصول إلى مصادر دخل إضافية، غير أنه يتوقع أن تكون هذه الآثار قصيرة الأمد. قد تتضمن العملية تعقيدات أخرى مرتبطة بكيفية تحويل المودعات بالعملات الأخرى غير اليورو، فهل سيتم أيضا إجبار مالكيها على تحويلها إلى الدراخمة بالسعر الرسمي لها؟ ربما تلجأ الحكومة اليونانية إلى ذلك لتسهيل أزمة السيولة التي ستواجهها من العملات الأخرى غير اليورو، إلا أن اللجوء إلى هذا الخيار ربما يكون إجراء غير تقليدي أو غير مبرر من الناحية العملية.
إنشرها