المقالات

مبدأ الريبة والصراع من أجل روح العلم

مبدأ الريبة والصراع من أجل روح العلم

يعرض هذا الكتاب تاريخ العلم والفيزياء بخاصة، وكيف تشكلت نظرية الكم وركائزها العلمية والتطورات التي مرت بها، والصيغ التي انتهت إليها، ويركز على حالة الجدل التي أثارتها نظرية الكم، ويعنى بالمضامين الميتافيزيقية والمعرفية والحمولات القيمية والمنهجية التي يعتمل بها مبدأ الريبة، قطب رحى هذه النظرية ومركز ثورتها على الفيزياء التقليدية. إن البشرية ليست كلية العلم، ولم يسبق لأحد من البشر أن عرف كل شيء، ومن غير المرجح أن يتسنى لأحد منهم أن يعرف كل شيء؛ ولذلك يظل العلم محاولة لاستنباط النظام من الفوضى، وفي عام 1927 شكل عالم الفيزياء الشاب هايزنبرج استدلالا علميا بسيطا وبارعا ومدهشا، واقترح تسميته على وجه التقريب ''عدم الدقة/ inexactness'' وأحيانا يسمى ''اللاتحددية/ indeterminacy'' ثم وبتوجيه من أستاذه نيلز بور طرح تعبيرا جديدا ''اللايقين أو الريبة'' وصار اكتشاف هايزنبرج يعرف بشكل راسخ بمبدأ الريبة (ص 17) . واختار المترجم ''الريبة'' عنوانا للكتاب كترجمة للعنوان الأصلي للكتاب uncertainty مؤثرا دلالته الإيجابية على سلبية ''اللايقين'' ولأن أداة التعريف لا تدخل على أدوات النفي. ويقابل مبدأ ''الريبة'' مبدأ ''الحتمية'' والقائم على أن الإنسان بمعرفته كل الأوضاع الراهنة في الكون وإدراك مجمل النواميس التي تحكم ظواهره يستطيع الإحاطة بجميع أوضاع مستقبله، لكنه حكم يبدو خاضعا لشروط يصعب استيفاؤها. وهكذا فإن مبدأ الريبة هو إنكار مؤسس علميا للمذهب الحتمي الذي ظل لقرون عدة في غاية الأهمية، والقائم كما عبر عنه أبرز دعاته ماركيز دي لابلاس بالقول ''المفكر الذي يعرف في كل لحظة كل القوى التي تبث الحياة في الطبيعة والمواضيع المتبادلة التي تتخذها الكائنات التي تتألف منها هذه الطبيعة إذا كان عالما بما يكفي لتحليل البيانات سيستطيع أن يكثف في معادلة واحدة حركة أجسام الكون الأعظم وحركة أصغر ذراته، عند هذا المفكر لا شيء موضع ارتياب، والمستقبل مثل الماضي، سيكون ماثلا أمام عينيه'' (ص 12) ومن الواضح أن لابلاس لا يضمن المعرفة الكلية واقعا ملموسا، لكنه يقدم وعدا بها، وعدا بفردوس اليقين. الحتمية وإن كانت تقر بالعجز عن الفهم والإدراك، لكن ذلك يحدث لأن العقل البشري لم ينجح في مشروعه للفهم العلمي المطلق، ولم يكن قادرا على إنجاز هذه المهمة، وليس لأن الطبيعة لم تكن قابلة للفهم، وعلى حد تعبير آينشتين فإن ''أشد الأشياء استغلاقا على العقل هو أن العالم يمكن تعقله'' ما يعني أن كل شيء في الطبيعة قابل للفهم إلا كونها قابلة للفهم'' (ص 12). لكن هايزنبرج يشكك في هذه البشارة حتى لو استطاع العقل البشري معرفة الأوضاع الراهنة في الكون لن يتمكن من التنبؤ بمستقبله، فكلما كان الملاحظ أكثر دقة في قياس طاقة حدث كمومي ما، قلت قدرته على تحديد زمن هذا الحدث، وكلما جاهد في الحصول على معلومات عن موضع الإلكترون قل احتمال درايته بكمية حركته، وكلما ازداد تيقنا من كمية حركته استعصت عليه معرفة موضعه، ليس هذا ''مجرد قيد على الانتشار الإحصائي لنتائج القياس، بل مبدأ يقنن ما يمكن قوله عن الجسيمات بوجه عام'' (ص 12) إنه يشي بعجز بشري متأصل عن فهم العالم الميتافيزيقي، فلا شيء يمكن أن يعرفه البشر بمعنى نهائي؛ لأن كل ما يوجد إنما يوجد بوصفه احتمالا. الجديد في مبدأ هايزنبرج ''الريبة/ اللايقين'' أن القياس لا يزعج المقاس فحسب، بل يقوم بتحديده حقيقة أن كل ما تحصل عليه من القياس يتوقف على ما اخترنا قياسه لا طرافة فيها، الطريف هو أن قياس جانب من النسق يوصد الباب في وجه ما يمكن اكتشافه من أشياء أخرى، ومن ثم فإنه يقيد بشكل محتم المعلومات التي يمكن لأي قياس مستقبلي أن يفضي إليها. (ص 13) وهذا يختلف عن الحكم البديهي أن البشر يعرفون أشياء ولا يعرفون أخرى وعن الحكم الحتمي أننا لو عرفنا أشياء لعرفنا كل شيء، إن مبدأ الريبة يقر بأن معرفتنا بأشياء مأتى جهلنا بأخرى، كما لو أن العلم يحتم الجهل، ففي العلم قبل ميكانيكا الكم ''لكل شيء موضع، وثمة موضع لكل شيء'' وإمكان فهم العالم مؤسس على إمكان التعرف على أجزاء المادة ومواضعها وطاقتها وكمية حركتها، أما في العلم الكمومي فالعالم غير قابل للفهم؛ لأنه لا رجاء في معرفته، كل هذه الأشياء في آن واحد، هذا المبدأ لا يقول إن البشر قد خلقوا على نحو يحول دون قدرتهم على فهم العالم، بل إن العالم خلق على نحو يحول دون قدرهم على فهمه. (ص 13) العلم إذن ظني لأسباب مغايرة لقصور الشواهد البشرية ولضعف قدرات البشر الذهنية، ولأسباب مغايرة لقلة حيلة الإنسان أمام رغباته وأهوائه، لكن لأسباب كامنة في الطبيعة نفسها، وهكذا فإن المناقب التي ظلت العلوم الطبيعية تستعلي بها قرونا على العلوم الإنسانية، الموضوعية والدقة وضبط المتغيرات، والناجمة جزئيا عن كونها تتعامل مع جوامد لا إرادة حرة لديها، ولا مواقف عاطفية يتخذها العلماء إزاءها، تفقدها فجأة وتفقد معها مبرر نظرتها الدونية للإنسانيات، وهذا هو مكمن خطر مبدأ هايزنبرج ''الريبة/ اللايقين'' لم يعد هناك ما يسمى العلوم الدقيقة. العلم: من اليقين إلى الظن الحال أن الريبة لم تكن جديدة كلية على العلم عام 1927، فقد كانت النتائج التجريبية تعاني دوما عوزا في الأحكام، وجودة التنبؤات النظرية إنما تكون بجودة الافتراضات التي تتكئ عليها، وتستدعي التجارب باستمرار تفاصيل أكثر دقة، فيما تخضع النظريات العلمية إلى عمليات تعديل وتنقيح مستمرة، فالريبة والتعارض وعدم الاتساق من ضمن تجهيزات كل تخصص علمي حيوي. وهكذا فإن الريبة ملازمة للمسار العلمي عبر التاريخ، وتطور العلم عبر تطبيق الاستدلال المنطقي على الحقائق والبيانات التي يمكن التحقق منها. لقرن أو لقرنين بدا أن العلم يسير قدما نحو كشف النقاب عن الظواهر العلمية والطبيعية والتنبؤ بها، وفي نهاية المطاف يكشف عن نظام العالم: الحقائق حقائق، والقوانين قوانين، لقد اقتضت قوة العلم حتمية التقدم، بدت الطبيعة قابلة لأن تعرف، وإذا كانت قابلة لأن تعرف فمحتم أن يأتي اليوم الذي تعرف فيه. وهيمنت هذه الرؤية التقليدية على صنوف العلم، الفيزياء والجيولوجيا والبيولوجيا، حتى أول جيل من علماء النفس تصوروا أن العالم الطبيعي على شكل آلة معقدة، لكنها معصومة عن الخطأ، وعلى هذا النحو تطلعت كل العلوم إلى المثال الذي أمّنته الفيزياء، ومضى العلماء في مهمة عسيرة، واكتشفوا أن في وسعهم تدوين قوانين الطبيعة، لكنهم اكتشفوا عوزهم للقدرة التحليلية والحسابية اللازمة للعمل على هذه النتائج، وإذا حدث أن تعثر مشروع الفهم العلمي المطلق فلأن العقل البشري لم يكن على مستوى المهمة، وليس لأن الطبيعة لم تكن قابلة للفهم. لكن هايزنبرج اتجه لفحص هذه المقولة التي كانت تبدو بديهية! لم يجادل هايزنبرج في كمال قوانين الطبيعة، بل عثر في قوانين الطبيعة نفسها على صعوبات غريبة وتهدد بالخطر، لقد تعلق مبدأ الريبة بأكثر أفعال العلم أولية، كيف نحصل على معرفة بالعالم؟ وكيف نحوز نوع المعرفة الذي نستطيع تعريضه للتدقيق العلمي؟ اكتشف هايزنبرج أنك تستطيع قياس سرعة الجسيم أو قد تستطيع أن تقيس موضعه، غير أنك لا تستطيع أن تقوم بالمهمتين معا، أو كلما كنت أكثر دقة في معرفة الموضع غدوت أقل قدرة على معرفة السرعة، أو بتعبير أقل وضوحا ''فعل الملاحظة يغير الشيء الملاحظ'' (ص19) يبدو أن هايزنبرج يقول إنك لا تستطيع فهم كل ما تود معرفته، حتى قدرتك على وصف العالم مقيدة، وإذا لم يكن يتسنى لك وصفه كما أملت، فكيف لك أن تأمل في استنباط قوانينه. وأصبح مبدأ الريبة عبارة جذابة ليس فقط في العلم، لكن في سائر المجالات الإنسانية والاجتماعية، الملاحظ يغير الشيء الملاحظ (بكسر الحاء ثم فتحها) حين يقرر منظرو الأدب أن النص يعرض تنويعة من المعاني وقفا على مزاج ومحاباة قراء مختلفين، يكون هايزنبرج مختبئا في الوراء، فعل الملاحظة يحدد ما يلاحظ وما لا يلاحظ. جرأة غير مسبوقة لاحظ روبرت براون المولود عام 1773 أن المجهر لا يكشف فقط عن الكائنات الحية الدقيقة، لكن عن حركة سريعة ليست مرتبطة بالكائنات الحية، لكن العلم تجاهل هذه الظاهرة التي سميت فيما بعد ''الحركة البراونية'' لأكثر من 80 عاما، وفي عام 1803 اقترح دالتون تصورا للذرات وشكلها وسلوكها والطريقة التي تتفاعل بها. وبدأ علم الذرة بالتشكل في مسارين مختلفين، أحدهما كيميائي والآخر فيزيائي، فالذرة عند عالم الكيمياء شيء له خواص ملموسة، إنها تحوز بطريقة ما خصائص المادة التي تمثلها، ويمكنها أن تتصل أو تنفصل عن ذرات أخرى، وفقا لخصائص المادة التي تمثلها، لكن علماء الفيزياء فكروا بطريقة مختلفة، كانت الذرات لديهم كريات صلبة دقيقة، تحلق بسرعة عالية في مكان يكاد يكون فارغا، تتصادم أحيانا بعضها ببعض، فترتد ثانية، وفق هذه النظرية فإن الحرارة ليست سوى طاقة الحركة الذرية. وصمم ماكسويل، أحد أهم علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر نموذجا للذرة، وظل هذا النموذج يعدل إلى أن اقترب من هيئة المجموعة الشمسية، تشكل نواة الذرة مركزه مثل الشمس، وتدور حوله الإلكترونات مثل الكواكب. واستعيدت فكرة براون على هيئة نتيجة خطيرة عام 1905 عندما أعلن عالم الفيزياء الشاب آينشتين نظرية ''النسبية'' وتكون لدى العلماء فهم لتصميم الكون، لكن يبدو أنه لم يعد في وسعهم الحصول على معرفة كاملة بالكيفية التي يتحقق بها هذا التصميم، بمقدورهم معرفة المخطط الأولي لهذا الكون، لكن ليس في وسعهم معرفة شكل وحجم كل لبنة. غموض .. موضع حيرة عظيمة بحلول العقد الأول من القرن العشرين كانت علوم الذرة قد بلغت شأنا عظيما، واتجهت في مجالات متمايزة لا علاقة واضحة بينها، واكتشف النشاط الإشعاعي الذي أتاح المجال لمعرفة واستخدام الأشعة السينية (1896) ثم اكتشفت إشعاعات أخرى غير السينية أتاحت المجال لمعرفة عناصر جديدة مشعة (1902) لكن تلقائية الإشعاع كانت مسألة غامضة، موضع حيرة عظيمة. وفي هذه الأثناء ظهر رذرفورد القادم من نيوزيلندا إلى كامبريدج ليعمل إلى جانب تومسن، مكتشف الإلكترونات، وأثبت بسرعة أنه يوجد على الأقل نوعان مختلفان من الإصدارات الإشعاعية، واحد يمكن إيقافه بقطعة من الورق المقوى، والآخر قادر على النفاذ (ألفا وبيتا). وواصل رذرفورد وآل كوري التعرف على عدد من العناصر المشعة، وظهرت عام 1902 نظرية التحول في النشاط الإشعاعي، أو تحول العناصر إلى عناصر أخرى كتفسير للإشعاعات المختلفة والمشوشة الصادرة عن العناصر، وهكذا تمكن رذرفورد وسودي من طرح نسق يمكن من فهم تعددية أنواع الراديوم والثوريوم والأكتينيوم، وإشعاعاتها بوصفها سلسلة وصلات انحلال النشاط الإشعاعي، حيث يصير عنصر ما عنصرا آخر، إنها الخيمياء، الفكرة التاريخية القديمة أو الحلم بتحويل العناصر العادية إلى عناصر نفيسة/ حجر الفلاسفة، أو أكثر من ذلك بكثير. كيف يقرر الإلكترون؟ في أيلول (سبتمبر) من عام 1911 قدم إلى كمبريدج شاب دنماركي متفوق في الفيزياء والعلوم، نيلز بور ليعمل مع تومسن، وكان بور قد أعد أطروحته في توصيل الكهرباء في المعادن، مفترضا أن الإلكترونات تحمل التيارات الكهربائية، وأنها تتحرك بدرجة أو أخرى من الحرية داخل الموصل على طريقة ذرات الغاز تحلق إلى أعلى وأسفل في أنبوب. ثم رحل بور إلى مانشيستر ليعمل مع رذرفورد، الذي أعلن في ذلك الوقت نواة الذرة الدقيقة والكثيفة، وأكمل بور فكرة رذرفورد بتخيل الإلكترونات على هيئة سحابة تحوم طليقة السراح ضمن موضع يمثل حجم الذرة الكلي الذي توجد في منتصفه نواة رذرفورد، وهي تحافظ على وحدة الكل بطريقة ما، وبعد سنوات طويلة من البحث والتجارب بدا أن الفيزياء النووية تتجه في تفسير انحلال النواة الإشعاعي والنشاط الإلكتروني إلى التلقائية، ظواهر فيزيائية تحدث وحسب، ليس لأي سبب واضح، أو دون علة يمكن تحديدها، وظلت الأحجية دون حل مناسب، وكتب آينشتين إلى زميل له قائلا: ''إن أمر السببية يسبب لي الكثير من القلق'' لقد كان إلى حد ما وحيدا في قلقة، فمعظم علماء الفيزياء كانوا أكثر انشغالا بنموذج بور لفهم الذرة. شيء ما حدث في عام 1918 وصل الطالب الجامعي اللامع في الفيزياء ولفجانج بولي إلى ميونيخ قادما من فينا، وبعده بعامين ظهر الشاب الألماني هايزنبرج (1901 - 1976) كانا طالبين واعدين وصاعدين، ففي عام 1919 قدم بولي كاب في شرح ''النسبية'' عرض فيها علومها الرياضية والفيزيائية بوضوح وأناقة أدهشت آينشتين نفسه، لكن بولي اتجه إلى دراسة نظرية ''الكم'' بإشراف سمرفيلد، رئيس قسم الفيزياء في جامعة ميونيخ، ومضى هايزنبرج مع نيلز بور في دراسة وتطوير نظرية الكم. كتب بولي إلى بور قبل رحلة هاينزبرج إلى كوبنهاجن ''دائما ما تسير الأمور على نحو غريب معه (هايزنبرج)، حين أتأمل أفكاره فإنها تبدو لي موحشة، فألعنها بيني وبين نفسي، إنه شخصية غير فلسفية تماما؛ لأنه لا يحفل بتطوير مبادئ واضحة ولا يربطها بنظريات قائمة، لكن حين أتحدث إليه أعجب به كثيرا، وأرى أن لديه مختلف أنواع الحجج الجديدة على الأقل في قلبه، وأعتقد أن في مقدوره أن يسهم في تطوير العلم مرة أخرى، آمل أن تستطيعا معا أن تخطوا خطوة كبيرة في النظرية الذرية، وآمل أيضا أن يرجع هايزنبرج إلى بلده بموقف فلسفي في تفكيره''. (ص 141) كانت الفكرة الأساسية في نظرية الكم الأساسية كما صاغها سمرفيلد وبور على نحو اعتبر ثوريا تقوم على فهم كيف تتحرك الإلكترونات في الذرة واشتقاق ترددات الذرة المطيافية من هذه الحركات، ولكن هايزنبرج عكس هذا المنطق كلية، ستكون الترددات المميزة العناصر الأساسية في فيزيائه الذرية، فلا يعبر عن حركات الإلكترونات إلا بشكل غير مباشر. ''لقد اقترحت الفكرة نفسها'' هكذا عبر هايزنبرح عما حدث بعد سنين عدة، وكانت قفزة كبيرة تشبه قفزة آينشتين حين اقتيد إلى نظرية النسبية، عبر إعادة فحص مفهومي الزمان والمكان البدهيين.. إن الارتياب المستمر في البدهي قد يكون علامة العبقرية. تأليف: ديفيد لندلي ترجمة نجيب الحصادي كلمة (أبو ظبي) ودار العين (القاهرة) 315 صفحة
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المقالات