Author

75 % للقروض الصناعية تحتاج إلى بنية أساسية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
قبل نحو ثلاثة عقود توجهت المملكة بقوة نحو التنمية الزراعية، ووضعت لذلك أهدافًا جميلة وطموحات كبيرة، وحلمنا جميعًا بالاكتفاء الذاتي وفرص العمل والثروة ولتنفق المملكة أكثر من 40 مليارًا على تلك الأحلام في شكل قروض زراعية انتهت إلى لا شيء تقريبًا. واليوم؛ ورغم توقف تلك التجربة مع توقف الدولة عن شراء القمح والهدر الكبير الذي يواجه المزارعين بتوقف آلاتهم الزراعية عن العمل؛ فإننا نقف معهم صامتين على عتبات تلك التجربة، ولم نحدد بشكل مدروس أسباب الفشل، ولماذا اعتمد المواطن على الدولة في نجاح نشاطه، وكيف انعدمت لدى المزارعين الحيلة لخفض التكاليف؟ لماذا حملنا القمح خطيئة ''الهدر في المياه'' وخطيئة فشل تلك التجربة المرة، بينما تشير التقارير هذه الأيام إلى أن خطيئة الهدر استمرت بل زادت مع زراعة الأعلاف، والأعجب أن تنجح الأعلاف فيما فشل فيه القمح. ومع ذلك فإنني لست معنيًا في هذا المقال بتحليل تلك التجربة أو الحديث عنها بقدر ما تعنيني فكرة البحث والدراسة عن الأسباب الحقيقية لفشل أي تجربة ليس لتصحيحها فقط، بل لنتعلم منها ما يجب فعله عندما نواجه تجربة مماثلة. واليوم تأتي التجربة الجديدة مع جيل جديد فهل علينا أن نقلق؟ خلال الأيام الماضية؛ صدرت موافقة مجلس الوزراء على إعطاء قروض صناعية تصل إلى 75 في المائة في كل من: جازان، الباحة، نجران، تبوك حائل، عرعر، والجوف. ولا شك أن هذه حوافز جبارة، فيكفي أن يكون لديك مبلغ 250 ألف ريال لتدفع الدولة لك مبلغ 750 ألف ريال حتى تقيم مشروعك الصناعي، وإذا زدت زادت الدولة. هيئة المدن الصناعية تعدنا بأن هذا الدعم وهذا التوجه الكريم من الحكومة سيخلق بيئة استثمارية، وسيدعم التنمية المستدامة، وسيوفر فرصًا للعمل في غير المدن الرئيسة في المملكة. ها هي التجربة تكرر نفسها في ثوب جديد وبالنبرة نفسها والأحلام الوردية الجميلة نفسها التي رسمناها أو رسمت لنا قبل مشروع التنمية الزراعية، فلا تحققت تنمية زارعية ولا هي استدامت ولا حتى فرصها الوظيفية. يجب أن أكون واضحًا بما يكفي حتى لا يفهم هذا المقال بعكس ما أرمي إليه، فأنا لست ضد دعم المواطن وخلق رجال أعمال جدد، خاصة من جيل الشباب الناشئ، بل نعم لهذه التوجهات، ونعم للقروض والمدن الصناعية، لكن كيف لنا أن نضمن عدم تكرار الإخفاقات السابقة، خاصة إذا كنا لا نعرف بالضبط كيف ولماذا فشلنا؟ عندما يندفع المواطنون للاستفادة من هذه القروض بشتى الطرق حتى أولئك الذين ليست تعنيهم الصناعة ولا التنمية المستدامة، ولا فرص العمل بقدر ما يهمهم الحصول على 750 ألف ريال أو حتى سبعة ملايين ريال، كيف لنا أن نضمن نجاح التجربة وصدق توجهاتهم الصناعية؟ كيف نوجد صناعة حقيقية تنافسية تتناسب مع احتياجات المجتمع، وليس مجرد ورش لقطع الرخام ولف الحديد تعمل فيها عمالة أجنبية ونسميها مصانع؟ أولئك الذين عملوا في الزراعة وعاشوا تلك التجربة من البناء إلى الفناء يعرفون أن القضية لم تكن قضية معدات وقروض ومياه، بل قضية فكر زراعي متكامل، قضية النقل الرخيص للأسواق، قضية الأسواق الفاعلة، قضية الآفات الزراعية قضية البحث والتطوير الزراعي. الفشل لم يكن فشلاً في خفض التكاليف وتقليل هدر الماء فقط، بل فشل فكر زراعي كامل لا نريد تكراره تحت اسم صناعي. إنني أنظر إلى القروض الصناعية كمشكلة العربة والحصان، فعربتنا مملوءة بالخيرات الحسان من العوائد النفطية غير المسبوقة، ونستطيع ـــ بفضل الله ـــ أن نقدم قروضًا سخية بلا شك، لكن أين الحصان الذي سيجر عربتنا الصناعية؟ بمعنى أننا لم نطور حتى حدوة ذلك الحصان، حتى الآن لم نوجد البنية الأساسية للصناعة الفاعلة، على الأقل في تلك المدن المنشودة في القرار. الباحة منطقة وعرة، والوصول إليها صعب، خاصة للشاحنات الكبيرة، جازان وتبوك والجوف ونجران كلها تجمعها صفة مشتركة، فهي مدن في الأطراف، ومدن ذات كثافة سكانية متوسطة أو حتى أقل، مدن ذات احتياجات متوسطة نسبة إلى النمو، حيث صنفت بالأقل نموًا، والسؤال الذي يبرز أمامي هو: كيف يمكن لنا أن نضمن نجاح الصناعة في هذه المدن والمصانع إذا لم يستطع صاحب المصنع نقل منتجاته بسرعة وبأقل تكلفة إلى المدن الأكثر نموًا والأكثر كثافة سكانية، أي المدن القادرة على شراء منتجاته. إنها المشكلة نفسها التي واجهت المزارعين، وما زالت تواجه الباقين منهم في جازان ونجران وحائل وتبوك، وستواجه الصناعيين ولما تحل بعد. حتى مع النضال الذي سيبذله الصناعيون لتجاوز هذه المعضلة، فإن عليهم وحدهم تقرير ماذا سيصنعون، وهذا معضلة أخرى، بل هي تكرار فاشل لتجربتنا الزراعية الفاشلة عندما عمل جميع المزارعين على زارعة القمح، بينما كان هناك العديد من المنتجات الزراعية التي كنا سنبرع فيها لو اهتم بها المزارعون في فترة الدعم السخي تلك، مثل التمور في الوسط والحمضيات في الأطراف، ومع ذلك فلا عتب على المزارعين بقدر ما نعتب على مانحي القروض الذين لم تكن لهم آفاق واسعة تنير الطريق للمواطن المتحمس، ومرة أخرى تبدو لنا العربة قبل الحصان. لست هنا أدعو إلى تعقيد إجراءات منح القروض، فهذا خطأ وسيعقد المشكلة، ذلك أن الثقة بالسداد ليست هي القضية، بل أن نضمن نجاح أي مصنع ننشئه، أن نضمن البنية الأساسية لكل المصانع، وهذا دور هيئة المدن الصناعية التي نسمع عن مدنها ولا نراها.
إنشرها