Author

الإغريق في أزمة

|
في مقال سابق نشر في عام 2008 عنوانه ''هندسة مالية أم عبث مالي''، وذلك إبان عزم وزير الخزانة الأمريكي آنذاك هنري بولسون، وضع عملاقي الرهن العقاري، فاني ماي وفريدي ماك، تحت وصاية الوكالة الفيدرالية للإسكان؛ لتعرضهما لخطر الإفلاس، وتهديد الاقتصاد الأمريكي، حيث يعادل قيمة ما تصدره هاتان المؤسستان من سندات قيمة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة تقريبا، أشرت في هذا المقال إلى أن ما اضطر الحكومة الأمريكية إلى تأميم المؤسستين تفاقم خسائر سندات الرهن العقاري، التي كانت عمليات الهندسة المالي أو (العبث المالي) سبب رئيس فيها. وفي ذلك الوقت بالذات، استغلت الدول الأوروبية الوضع بفرض ضغوط على الولايات المتحدة لإصلاح التشريعات المالية لديها؛ للحد من عملية إنشاء السندات المسمومة toxic assets، كما حملت الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية عن تبعات الأزمة المالية. اليوم الوضع ينقلب رأسا على عقب، والدوائر تدور، وأمريكا نفسها التي كانت مسؤولة عن انطلاق شرارة الأزمة المالية العالمية، تطلق سهام اللوم اليوم على الأوروبيين الذين مارسوا نوعا مشابها (للعبث المالي) الذي مارسته الولايات المتحدة، لكنه (عبث سياسي) بحت. فالقادة السياسيون لا يريدون أن يظهروا بمظهر سيئ أمام ناخبيهم؛ ما جعلهم يتأخرون كثيرا في حل مشكلة الديون السيادية الأوروبية، ما يهدد بأزمة مالية أخرى، وركود اقتصادي آخر. وإذا كانت الأزمة المالية السابقة أتت في ظروف مالية مواتية من حيث توافر الحيز المالي لدى الدول لتطبيق حزم تحفيز مالي للمساهمة في الحد من أثر تراجع الائتمان بسبب أزمة الرهن العقاري، فإن الظروف اليوم غير مواتية على الإطلاق، لا من ناحية توافر الحيز المالي، ولا من ناحية توافر الحيز للسياسة النقدية، لإجراء تخفيضات في أسعار الفائدة، في ظل انخفاضها إلى ما يقارب الصفر حاليا. الوقت أيضا غير ملائم بالنسبة للكثير من القادة السياسيين الذين يسعون إلى وضع خطط تحفيز جديدة لخلق المزيد من الوظائف، كخطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، التي تأتي في وقت تواجه فيه معارضة كبيرة من الكونجرس الأمريكي. وإن كان في هذه الأزمة أي فائدة بالنسبة له، فإنها قد تحث أعضاء الكونجرس على دعم هذه الخطة لعدم وجود البديل. لكن الأسواق والمستثمرين لا يستطيعون الاحتمال والانتظار كثيرا إلى أن يحسب السياسيون حسابات الربح والخسارة في الانتخابات، حيث إنهم يحسبون خسائرهم وأرباحهم المالية بالدقيقة والثانية. ومن سيتحمل هذا العبء في النهاية هم في الواقع الناخبون أنفسهم، الذين سيحصدون النتائج المباشرة لأي أزمة مالية - إن حدثت. الأوربيون يحاولون جاهدين منع حدوث الأسوأ في منطقة اليورو، وهو إفلاس اليونان. وكلما تأخر الأوروبيون في الاتفاق على عناصر مراجعة برنامج الإقراض مع اليونان، تدهورت الظروف في الأسواق المالية، وزادت أعباء التمويل على اليونان. الدين العام لليونان الآن يتجاوز ما نسبته 170 في المائة من الناتج المحلي، أو ما قيمته 485 مليار دولار أمريكي، وهذا ما يثير المخاوف من تأثر المصارف الأوروبية الدائنة لليونان بإعلان الإفلاس، الذي قد يهدد بانتقال سريع للأزمة من مصرف إلى آخر، ومن دولة أوروبية إلى أخرى، خصوصا إلى الدول الأوروبية الأخرى التي تواجه وضعا ماليا حرجا كإسبانيا وإيطاليا. المصارف الفرنسية هي الأكثر انكشافا على ديون اليونان، بقيمة تبلغ 57 مليار دولار، يليها في ذلك المصارف الألمانية بقيمة تبلغ 34 مليار دولار. المصارف الإيطالية منكشفة بمبلغ محدود قدره أربعة مليارات دولار، في حين لا تتجاوز قيمة انكشاف المصارف الإسبانية المليار دولار. لكن تأثر القطاع المالي في أوروبا بإفلاس اليونان حال حدوثه قد يتجاوز قيمة خسائر المصارف المالية جراء تخفيضات الديون، إلى خسائر نتيجة تأثر قطاع المشتقات المالية المنكشف على اليونان. فتأثر القطاع المالي الأوروبي قد يكون مباشرا وغير مباشر، فهو سيكون مباشرا بانخفاض قيمة ديونها على اليونان، ما سيفرض عليها احتساب قيمة الانخفاض كخسارة محققة. بينما ستتأثر بشكل غير مباشر، من خلال تأثر الائتمان المصرفي بين البنوك أنفسها، ومن خلال تمسك المصارف بالسيولة؛ ما سيؤدي إلى أزمة ائتمان مشابهة لما حدث بعد انهيار بنك ليمان براذرز. النتيجة التي ستتبع ذلك، ارتفاع تكاليف التمويل، وتأثر النشاط المصرفي في أوروبا، وتراجع كبير للثقة التي تمثل المحرك الرئيس للاستثمار، وتأثر كبير لميزانيات القطاع الخاص والعام على حد سواء. هذا سيقود بالطبع إلى انخفاض في الطلب، وبالتالي تراجع كبير في النشاط الاقتصادي العالمي، ودخوله في دوامة أزمة أخرى من حالات الإنعاش الاقتصادي. إضافة إلى ذلك، فستتأثر المصارف المصدرة لعقود مبادلة خسائر الديون CDS، التي يقدرها البعض بخمسة مليارات دولار، لكن البعض الآخر يقدرها بما يقارب 80 مليار دولار، هذا مقارنة بديون ليمان براذرز التي تجاوزت عند انهياره 600 مليار دولار، في حين بلغت قيمة عقود مبادلة خسائر الائتمان على ليمان نحو 270 مليار دولار.
إنشرها