Author

الاستدامة الاقتصادية

|
حين دخل البعد البيئي في حساب أدبيات التنمية ولد مصطلح ''الاستدامة'' وتم تداول مقولات وأطروحات من نوع التنمية المستدامة، في إشارة مكثفة إلى أن العمليات التنموية ينبغي لها أن تضع في حساباتها بشكل أساس في استثمارها للموارد الطبيعية أو في عمليات الإنتاج ألا تستنفد هذه الموارد أو تدمر المكون البيئي من أرض وبحر وجو، سواء بالتلوث أو في عملية إفقار أو تخريب لكنوزها الإيجابية. ولقد شكلت جماعات الخضر وأحزابها ومنظماتها في بدايات الثلث الثاني من القرن الماضي مدرجا لتنامي الإحساس بضرورة حماية البيئة حتى تواتر الإسهام الفكري في هذا المجال وتنامي الاهتمام على المستويات الأكاديمية كافة ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام والسياسة، علاوة طبعا على أهل البيئة من ناشطين وعلماء وإخصائيين، وفي ظل هذا الفيض من الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها وصيانتها ولد مصطلح الاستدامة مضافا للتنمية بشكل عام أو مضافا إلى مورد اقتصادي أو علمي أو ثقافي، ناهيك عن قوة العمل وهي الإنسان نفسه باعتباره محور كل ذلك. غير أن استدامة الاقتصاد كممثل للنشاط البشري ومخرجاته ما زالت رغم الاهتمام المكثف بالبيئة على المستوى الدولي لم تستجب لهذا التطلع والطموح لأسباب معقدة وكثيرة، على نطاق العالم المتقدم وعلى نطاق العالم النامي؛ فالبعد البيئي تتم المزايدة عليه والالتفاف حوله من الدول المتقدمة نفسها، فضلا عن أن الدول في العالم الثالث قد لا توليه اهتمامها بسبب تدني مستوى الوعي أو الإحساس بالمسؤولية تجاهه؛ لذلك يتم استنزاف الموارد الطبيعية وغير الطبيعية بطرق لا يبدو فيها حسابا لبعد البيئة وأهمية استدامتها. وإذا نحن تجاوزنا البعد البيئي فسنجد الممارسات المعوجة للتنمية، التي قد تعمد إلى الاتكاء على تطور صناعي لا يخدم التنمية ولا يثري الإنسان والبيئة مثل تصنيع السلاح التي تستنزف الموارد وتمنح إحساسا زائفا بالقوة والعظمة فيما الحقل التنموي يعج بهشاشة في المنتج وفي الإنجاز، كما حدث في الاتحاد السوفياتي سابقا الذي ترنح تحت عبء كلفة هذا النهج وعبء الظلم الواقع على جمهورياته. وإذا كانت أمريكا قد ملكت زمام الصدارة الاقتصادية قرابة قرن، مع كلفة بيئية فادحة فقد ترنحت اقتصاديا في فترة كسادها 1928 لتوحش في إدارة الاقتصاد بآلية السياسات المالية، وهي اليوم تعيد ترنحها في أزمة اقتصادية عالمية من صنع يدها وتحت ضربات وول ستريت والمؤسسات المالية الكبرى والمصارف والشركات وتضخمت ديونها بحدود خيالية تجاوزت 14.5 تريليون دولار، ولم تنفع معها كل محاولات الدعم بالتيسير الكمي وجرت معها الاتحاد الأوروبي الذي ما زال يلعق جراح إفلاس يكاد يحدث لأعضاء فيه عاجزا عن ردم هوة الثقب الأسود الذي وجد اقتصاده يتهاوى فيه رغم سياسات التقشف والضرائب التي ما زال تأثيرها غير ذي بال. إن الاستدامة الاقتصادية في سياسات الدول لم تستطع أن تتحقق إلا نسبيا فلا البعد البيئي تم تكريسه فعليا كمنطلق لعمليات التنمية ولا آليات السياسة الاقتصادية تم الحرص على أن تكون موجهة لخدمة التنمية الحقيقية وإنسانها بدلا عن المطامح السياسية والصراع على القوة.. وليس صحيحا أن حل هاتين المعضلتين (استدامة الاقتصاد) مستحيل أو أن الأفق نحوهما مسدود، وإنما الصحيح أن صناع السياسة في لهاثهم للثراء الاقتصادي والقوة كيفما تكون لدولهم أو حتى لهم يد يدفعون بالاقتصاد إلى عدم الاستدامة ويدفعون بالعالم إلى أن يشقى!!
إنشرها