Author

خيارات الطاقة العربية بعد حادثة فوكوشيما

|
مضى ما يزيد على ستة أشهر على وقوع زلزال توهوكو في اليابان الذي تسبب فيما قد يعتبر أضخم حادث نووي في التاريخ في محطة فوكوشيما دايتشي النووية. وإن كان من حسن الحظ أنه لم تعد تداعيات هذا الحادث الإنسانية والاجتماعية تتصدر عناوين وسائل الأعلام. فإن التداعيات الهيكلية على أسواق الطاقة العالمية ومستقبل الصناعة النووية ما زالت تتفاعل في عديد من عواصم العالم ومراكز القرار. فبعض الدول قررت التخلص نهائيا من محطاتها النووية، مثل ألمانيا وسويسرا. وأخرى قررت عدم تمديد الحياة التشغيلية للمحطات النووية، مثل اليابان. ودول أخرى تخضع سياستها النووية إلى المراجعة والتقييم مثل الصين والهند. بينما دخل الشك حول مستقبل الطاقة النووية أكثر الدول استخداما لها واعتمادا عليها وهي فرنسا، حيث ترتفع بعض الأصوات المؤثرة منادية بإعادة النظر في السياسة النووية المعتمدة. وقد جاءت حادثة فوكوشيما في مرحلة حساسة، شكلت انتكاسة كبيرة للصناعة النووية التي كانت قد بدأت تستعيد عافيتها بعد أزمة مماثلة مرت بها نتيجة حادثة تشيرنوبل الشهيرة في أوكرانيا إبان العهد السوفياتي في عام 1986م. حيث إن حادثة تشيرنوبل دفعت آنذاك بالعديد من الدول، خاصة في أوروبا الغربية ومن بينها ألمانيا والسويد وغيرهما، إلى إعادة النظر في التزاماتها باستخدام هذا المصدر للطاقة الكهربائية. إلا أن عامل الزمن، وبروز قضية الاحتباس الحراري، الذي ألقيت مسؤوليته على عاتق الطاقة الأحفورية، أعطى زخما لكافة أنواع الطاقة غير الأحفورية التي لا تولد انبعاثات الغازات الدفيئة كثاني أكسيد الكربون. وبالتالي تحسن منظور الصناعة النووية معززا بالأجندة البيئية العالمية، حيث أخذت العديد من الدول اعتماد المسار النووي في خططها للطاقة، ومن بينها دول نامية لم يسبق لها استخدام هذه التقنية من قبل. كما جاءت حادثة فوكوشيما في أسوأ الظروف للعديد من الدول النامية التي كانت تخطط لاستخدام الطاقة النووية لأول مرة، ومن بينها بعض الدول العربية والشرق أوسطية، سواء تلك المستوردة أو المصدرة للطاقة. حيث إن ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية خلال السنوات الأخيرة، شكل دافعا للدول المستوردة للطاقة لاعتماد الطاقة النووية، بين بدائل أخرى، كمصدر بديل ومنافس للطاقة الأحفورية. كما أنه مصدر متوافر على الأمد البعيد، فضلا عن إسهامه في تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة مما ينسجم مع الأجندة البيئية العالمية. بينما بالنسبة للدول المصدرة للطاقة، فقد كانت الحوافز مشابهة، وإن تباينت بعض الغايات. حيث إن ارتفاع أسعار النفط جعل استبداله في السوق المحلي بمصادر أخرى وتصدير الكميات المستبدلة منه إلى الأسواق الخارجية أمرا مجديا اقتصاديا. كما أن إدخال الطاقة النووية لهذه الدول يسهم في تنويع مصادرها من الطاقة ويوفر مصدرا بديلا للنفط والغاز عندما تقترب هذه المصادر من النضوب. هل ستغير حادثة فوكوشيما قواعد اللعبة بالنسبة للطاقة النووية؟ أم أنها كسابقاتها، سيخف تأثيرها مع مرور الزمن وضغط الأجندة البيئية وارتفاع أسعار البدائل؟ وهل يمكن للعالم الاستغناء كليا عن الطاقة النووية؟ وما هي البدائل لها على المدى الطويل؟ بعض من الأسئلة الصعبة، حيث إن أي إجابة موضوعية عليها يعتريها الكثير من اللا يقين. إن ما يضفي على حادثة فوكوشيما أهمية خاصة، هو أن العوامل المسببة لها عوامل معهودة. حيث يتم تصميم حماية أمن المحطات النووية بناء على افتراضات معينة حول هذه العوامل، وليست عوامل مستجدة مفاجئة وغير معروفة سابقا. فمن أهم معايير تصميم المحطات النووية وأولها هو قدرتها على تحمل الزلازل المتوقعة. أما المعيار الوحيد الآخر الذي تمت إضافته خلال العقد الأخير نتيجة ارتفاع وتيرة الإرهاب وأساليبه، هي قدرة المحطات على تحمل هجوم من الخارج بواسطة صواريخ أو طائرات متفجرة أو غيرها. كما أن العامل المهم الآخر المترتب عن حادثة فوكوشيما هو تسليط الضوء على قضية مهمة ومقلقة، رافقت الصناعة النووية منذ نشأتها، ولم يوجد لها حلا مستداما حتى الآن. إنها قضية التخلص من نفايات الوقود المستنفذ المشع. فما حدث في فوكوشيما، إضافة إلى تفسخ المفاعل وسيلان لبه المشع وتسربه إلى التربة والمحيط، هو خسارة خزانات الوقود المستنفد المتراكم داخل المحطة منذ عدة سنوات، لجزء من مياه التبريد الذي أدى إلى انكشاف جزئي للنفايات وارتفاع حرارتها. الأمر الذي أسهم في التسبب في الانفجارات التي وقعت في المحطة وتسرب المواد المشعة إلى خارجها. ويشار إلى أن جميع محطات التوليد النووية في العالم تلجأ إلى تخزين الوقود المستنفد في الموقع لفترة مؤقتة مبدئيا. ولكن مع انخفاض طاقة مراكز التخزين المركزية، المؤقتة بدورها لعدم وجود وسيلة مضمونة دائمة للتخلص من هذه النفايات المشعة، أصبحت جميع هذه المحطات خزانات شبه دائمة لكميات كبيرة جدا من الوقود المستنفد التي تتطلب التبريد باستمرار. يمثل إعادة تسليط الضوء على هذه التحديات المزمنة أمام الطاقة النووية الإيجابية الوحيدة لحادثة فوكوشيما. إذ قد يسهم ذلك في تركيز الاهتمام العلمي والتقني والمادي والمؤسسي حول العالم لجعل الطاقة النووية طاقة آمنة. وهذا متاح من خلال بعض التصاميم الجديدة لمفاعلات تتمتع بكفاءة عالية من حيث التعامل مع أحداث مشابهة. كما أن تقنية المفاعل المستولد The Breeder Reactor قد تمكن في المستقبل المتوسط إلى البعيد من تخفيض حجم النفايات المشعة إلى مستويات متدنية تمكن من معالجتها والتخلص الآمن منها. كل ذلك قد يشير إلى أن الطاقة النووية، بشكل أم بآخر، ستبقى جزءا أساسيا من مشهد الطاقة العالمي، خاصة على المدى البعيد، على الرغم من الانتكاسات الخطيرة التي مرت أوقد تمر بها في المستقبل. لكن هذا الاستنتاج لا يفيد الدول التي عليها أن تتخذ قرارات داهمة بشأن استخدام الطاقة النووية من عدمه. قد يكون من الحكمة للعديد من الدول التي تخطط لاستخدام الطاقة النووية لأول مرة، أن تراجع تلك الخطط في ضوء المعطيات الجديدة التي أوجدتها حادثة فوكوشيما. كما عليها أن تتابع عمليات المراجعة الشاملة التي تجريها معظم الدول النووية لخططها وسياساتها في هذا المجال، وعدم التسرع في اتخاذ القرارات حتى اتضاح المعالم. أيضا، على هذه الدول أن تكون حذرة من العروض المغرية التي قد تأتيها من صناعة تعاني التراجع الحاد في أسواقها وضعف اليقين في مستقبلها. لكن عدم التسرع لا يعني عدم المباشرة في إقامة التجهيزات العلمية والبحثية والمؤسسية للصناعة النووية التي تتطلب وقتا طويلا لتوفيرها. أما البدائل المتاحة على المدى القصير والمتوسط لتنويع مصادر الطاقة فهي متعددة، لعل أهمها من حيث الجدوى الاقتصادية والاجتماعية، هو ترشيد استهلاك الطاقة ورفع كفاءة استخدامها. يأتي بعدها استخدام الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء في السوق المحلي كبديل مجد للنفط الخام الأعلى قيمة في الأسواق العالمية. هذا فضلا عن الطاقة المتجددة، كطاقة الرياح التي تتمتع بدرجة عالية من الجدوى الاقتصادية، والطاقة الشمسية التي أصبحت مجدية في ضوء ارتفاع أسعار النفط وتطور تقنيات الشبكة الكهربائية الذكية، وغيرها من مصادر الطاقة المتعددة.
إنشرها