Author

تطوير التعليم زاد من رغبة المعلمين في التقاعد المبكر

|
طلبت وزارة التربية والتعليم في تصريح لها قبل أسبوعين دراسة أسباب رغبة كثير من المعلمين والمعلمات في التقاعد المبكر. وقد بينت السبب الجوهري وراء تنامي هذه الظاهرة وكنت أود أن أكتفي بذلك وأترك الخوض في التفاصيل للمختصين والتربويين إلا أن البعض طالبوني بمواصلة طرق الموضوع، وقد أهالني ما رأيته من تفاعل منقطع النظير ومشاركة كبيرة من المسؤولين، والمعلمين، وأولياء الأمور فيبدو أن الأمر قد لامس جرحاً غائراً وأيقظ مشاعر دفينة. وأريد قبل أن أبدأ مقالي هذا أن أتقدم بالشكر لوزارة التربية والتعليم على ما قامت به من إظهار هذا الأمر على السطح ووضع هذه الظاهرة تحت المجهر، وهذا يدل على رغبتها في تهذيب قراراتها، وتطوير برامجها، وإقالة عثرتها. والشكر أيضا موصول لكل من تفاعل مع هذه القضية وأخص أولئك الذين قاموا بتحليل الموقف بطريقة عقلانية وطرح الحلول المنطقية بما يتناسب والأوضاع الحالية لإعادة هيبة المعلم إلى سابق عهدها. وأريد أيضا أن أقدم اعتذاري لما سببه نبش الموضوع من إثارة ذكريات مريرة وإيقاظ مشاعر كانت بالأمس نائمة. ذكرت في مقال الأسبوع الماضي أن العبء الوظيفي هو السبب الجوهري الذي يضطر كثيراً من المعلمين والمعلمات إلى طلب التقاعد المبكر، وبينت أن المعلم يقوم بعدة أعمال لا تمس جميعها عمله الفني. فهناك أعمال إدارية وأخرى مكتبية كأعمال المقصف والجمعيات تسلب المعلم أثمن وقته، وجل طاقته، وترهق كاهله، وتستنزف قواه، ومن الممكن أن يفرغ لها موظفون إداريون، ويُترك المعلمون لمهمتهم التربوية ورسالتهم التعليمية. وهذا يقودنا إلى السبب الآخر لرغبة المعلمين في ترك المهنة وهو عدم إحساسهم بالاحترام. المعلم يشعر داخل البيئة المدرسية وخارجها بعدم الاحترام ويرى أن مهنته هذه من أوهن المهن فنجد بعضهم يتحرج أن يقدم نفسه في المحافل والملتقيات على أنه معلم. وعدم الاحترام هذا أفقد المعلمين احترامهم لذاتهم والانتماء لمهنتهم ويرون أنها أخذت منهم أكثر مما أعطتهم. ونحن نعلم أن الرغبة في التقدير والشعور بالاحترام من الضروريات التي بينها علماء السلوك التنظيمي عند دراستهم لسلوك العنصر البشرى داخل المنظمات فإذا لم يشعر الموظف بالاحترام، فإن قدرته الإنتاجية تقل وشعوره بالانتماء يضمحل. كما أن التطوير العشوائي للتعليم العام أو كما يحلو للبعض تسميته بـ "التطوير الفوضوي" قد زاد من رغبة المعلمين في التقاعد المبكر. فهذا التطوير غير المدروس وما أتبعه من التغيير الدوري للمناهج أرهق المعلمين ووضعهم في مواقف محرجة أمام طلابهم حتى وصل الأمر إلى أن بعض المعلمين الذين يخشون ربهم يحضرون دورات تدريبية على حسابهم الخاص- بمعنى أدق "دروس خصوصية"- رغبة منهم في فك رموز المناهج الجديدة. كما أن دخول عدم الأكفاء إلى ميدان التعليم أفقد المهنة قيمتها. تخيل معي خريج جامعي دخل الجامعة متسللاً وخرج منها متسللاً بمعدل مقبول بحث عن وظيفة فلم يجد إلا حارس أمن، إلا أنها ظهرت له فرصة أن يكون معلما فآثر الأخيرة على الأولى فأصبح عضوا تربويا يُحسب على ملاك التربية والتعليم. وهذا الذي تسلل إلى المهنة على حين غفلة يتساوى في الأجر والحوافز مع من يمتلك الصفات التربوية الفريدة والكم المعرفي الهائل، الذي بذل زهرة شبابه وجزءا من شيبته في التعليم وهو وإن كان يعد فرداً إلا أنه يعادل أمة بأكملها. إن مثل هذه المساواة الظالمة أدت إلى فقد المهنة بريقها، وزهد الأكفاء فيها، فلم تعد حلم الأجيال ولا طموح الولدان. كما أن عدم وجود نظام للحوافز يليق بهذه المهنة زاد من رغبة المعلمين في التقاعد المبكر. فالحوافز المادية والمعنوية التي يحصل عليها المعلم غير مجزية، وتُمنح بطريقة استفزازية. وحتى تتضح الصور دعونا نأخذ الإجازات كمثال للحوافز المعنوية. عندما تنتهي الاختبارات النهائية وترصد الدرجات الكلية وينهي المعلم مهامه المدرسية وينقلب الطلاب إلى أهليهم يبقى المعلم أسير مدرسته. فالنظام ينظر إليه كموظف وليس معلما فيرغمه على الحضور يوميا وتوثيق حضوره وانصرافه خطياً. وعمل كهذا أدى إلى إحباط المعلمين ولسان حالهم يقول "كيف لنا أن نؤدي أعمالنا طوال عام دراسي بكل أمانة وإخلاص ثم يحجر علينا بين أسوار المدرسة بدون عمل ننتفع به أو ننفع به". فما ضر لو بدأ المعلم يستمتع بإجازته عندما ينتهي من رصد درجات طلابه حتى يتعهد نفسه، ويقضي حوائج أهله، ويسترخي، ويرخي جسمه المتعب من الكر والفر داخل القاعات واقفا على قدميه صلباً صبوراً منذ بزوغ الشمس حتى ينتصف النهار. عمل بسيط كهذا سيكون له الأثر الكبير في نفسية وولاء المعلم للمهنة وسيشعره بالتميز وأنه يختلف عن بقية موظفي الدولة ويجب أن يختلف. هذه في رأيي أهم الأسباب التي تدفع المعلمين على الخروج من الميدان مبكرين أما البقية فلا أريد أن أقحم نفسي في الخوض فيها لأنها ستفتح ملفات قد أغلقت، كما أن موضوعا كهذا لا تغطيه مقالات صحفية وآراء فردية، بل مؤتمرات علمية وندوات دورية. لذا نقترح على التربية والتعليم أن تسعى إلى الحصول على موافقة من المقام السامي بعقد مؤتمر سنوي يهتم فقط بهموم المعلمين والمعلمات على غرار مؤتمرات جودة التعليم التي تنظمها وزارة التعليم العالي. نريد مؤتمرا دوريا يلقي الضوء على المعوقات التي تواجه المعلمين والمعلمات في البيئة المدرسية يختتم بتوصيات، تعد بمثابة خريطة طريق تعيد للمعلم كرامته وللمهنة بريقها.
إنشرها