Author

مقترح الميزانية المتوازنة

|
تحقيق الحكومات توازن ميزانيتها مسألة ليست مضمونة في كل الأحوال، فالحكومات لا تستطيع أن تعيش من وقت إلى آخر من دون عجز، وقد يكون العجز أفضل الحلول أمام الحكومات في ظل الأوضاع الاقتصادية التي قد تقتضي ذلك، مثل أوقات الكساد والحروب، حيث ينظر إلى العجز على أنه ضرورة وليس ترفا، وحينما يتراجع الاستثمار الخاص بحيث تترتب على زيادة الإنفاق الحكومي زيادة الاستثمارات الخاصة وليس مزاحمتها. > هدفت خطة رفع سقف الدين في الولايات المتحدة إلى خفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 إلى ما يقارب 75 في المائة تقريبا، وإن كان ذلك لا يعني أن القيمة الاسمية للدين ستنخفض، إنما سيواصل الدين العام الأمريكي ارتفاعه حتى يصل إلى نحو 18 تريليون دولار في هذا العام وفقا لتقديرات الخزانة الأمريكية، غير أن الناتج المحلي الإجمالي في هذه السنة يتوقع أن يصل إلى نحو 25 تريليون دولار تقريبا، ما يتسبب في تراجع نسبة الدين إلى الناتج، وعلى الرغم من أن خطة رفع سقف الدين لم تحل مشكلة الدين العام من الناحية المطلقة، إلا أن الخطة احتوت على إحدى التوصيات المهمة التي تهدف إلى بحث تعديل الدستور الأمريكي بحيث تصبح الميزانية المتوازنة قيدا دستوريا على الكونجرس والإدارة الأمريكية. ربما لم تطرح الفكرة بصورة إلزامية على الحكومات مسبقا نظرا لأن الديون العامة للدول كان من السهل دائما التعامل معها، كما أنها كانت بشكل عام في الحدود المأمونة التي تجعل من السهل على الحكومات تحمل أعبائها دون أن يترتب على ذلك تهديد لقدرات الدولة المالية على المدى الطويل. إلا أنه وبعد أن استفحلت مشكلة الديون في مناطق كثيرة من العالم وتحولت إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة لتعصف باستقرار العالم، عاد مبدأ الميزانية المتوازنة إلى العالم بقوة أكبر من أي وقت مضى، مدعوما بما يحدث على الأرض من آثار سلبية لتفحل مشكلة الدين العام في معظم أنحاء الكرة الأرضية، ولضمان تحقق المبدأ على أرض الواقع ولإجبار الحكومات على الالتزام به، فإن مقترح الميزانية المتوازنة يأتي مصحوبا بتعديل دستوري يجعل من الميزانية المتوازنة إحدى المواد الدستورية. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها هذا المقترح، فالمقترح متداول منذ فترة، على سبيل المثال في عام 1995 قام مجلس النواب الأمريكي بإقرار مقترح الميزانية المتوازنة وتعديل الدستور الأمريكي وفقا لذلك، إلا أن مجلس الشيوخ رفض المقترح. كذلك تم التفكير بجدية في المقترح مرة أخرى في عام 2010. اليوم لا يقتصر الحديث عن مقترح الميزانية المتوازنة على الولايات المتحدة فقط، إنما امتد أيضا إلى دول عدة في العالم، خصوصا تلك التي تواجه نموا في دينها العام بما يهدد قدرتها على خدمة ديونها على المدى الطويل، على سبيل المثال كانت إسبانيا قد أدخلت مبدأ الميزانية المتوازنة في عام 2001، غير أن الحكومة الاشتراكية التي تلت إصدار القانون قامت بتعديله بعد ذلك، وهو ما أدى إلى نمو الدين العام على النحو الذي نراه حاليا. من ناحية أخرى، فإنه في عام 2009 تم تعديل الدستور الألماني كي يمنع حكومات الولايات والحكومة الفيدرالية من أن تحقق عجزا في ميزانياتها، ووفقا للتعديل الدستوري فإن الحكومات لن تكون قادرة على تحقيق عجز في ميزانياتها يزيد على 0.35 في المائة من الناتج المحل الإجمالي (أقل من 1 في المائة)، بدءا من 2016، وبحلول 2020 يجب ألا تحقق الحكومة أي عجز على الإطلاق. كذلك تدفع ألمانيا حاليا الدول الأعضاء في منطقة اليورو نحو تبني النموذج الألماني للميزانية المتوازنة كجزء من حزمة السياسات التي تهدف إلى تدعيم استقرار اليورو، ويجد المقترح الألماني دعما واضحا من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. كذلك اقترح وزير المالية الإيطالي أن تتم موازنة الميزانية بحلول 2013 بدلا من 2014، وذلك في إطار الإجراءات التقشفية التي تتخذها إيطاليا للتعامل مع مشكلة نمو دينها العام، الذي أصبح يمثل نحو 120 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، وحث البرلمان على الدفع بإقرار مقترح تعديل الدستور بما يفرض على الحكومات الإيطالية الالتزام بتوازن الميزانية في أي مشروع مقترح لها. من ناحية أخرى، فقد أعلن أخيرا في إسبانيا طرح المقترح مرة أخرى بتعديلات دستورية تمنع الحكومة من أن تحقق عجزا في الميزانية. لضمان تحقق المبدأ على أرض الواقع ولإجبار الحكومات على الالتزام به، فإن مقترح الميزانية المتوازنة يأتي مصحوبا بتعديل دستوري يجعل من الميزانية المتوازنة إحدى المواد الدستورية، لكن ما المقصود بالميزانية المتوازنة؟ وما مزايا هذا المقترح؟ وما أهم عيوبه؟ وهل هو بالفعل اقتراح قابل للتطبيق؟ في هذا المقال نتناول بالتحليل الإجابة عن هذه الأسئلة. من الناحية النظرية، ووفقا لما نقوم بتدريسه للطلبة في مناهج مبادئ الاقتصاد الكلي، فإن مبدأ الميزانية المتوازنة لا يعني أن السياسة المالية المتمثلة في هذا المبدأ لن تكون لها آثار توسعية في النشاط الاقتصادي، بالعكس فإنه حتى مع توازن الميزانية العامة فإن السياسة المالية ستسهم أيضا في النمو من خلال ما يسمى مضاعف الميزانية المتوازنة الذي يساوي الواحد الصحيح. على سبيل المثال إذا تمت زيادة الضرائب بمليار دولار وزيادة الإنفاق بالمقدار نفسه، بحيث تظل الميزانية متوازنة، فإن مثل هذه السياسة تؤدي أيضا إلى إحداث زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بمليار دولار، وإن كانت قيمة المضاعف ستكون محدودة في هذه الحالة، والتي تقتصر على الواحد الصحيح كما سبقت الإشارة. مقترح الميزانية المتوازنة إذن مقترح يهدف إلى إدخال تعديلات في المواد الدستورية للدولة بحيث يتم وضع قيد حديدي على قدرة الحكومات على الاقتراض، بحيث تكون مجبرة على أن تخطط لإنفاقها في حدود مواردها المتاحة لها من المصادر كافة، وبالتالي لا تواجه الحكومة عجزا في ميزانيتها نتيجة لذلك، ومن الواضح أن المقترح يؤدي إلى رفع درجة المسؤولية المالية للحكومات، ويفرض عليها نسقا محددا من التصرف إزاء قرارات الإنفاق فيها، حيث إن قيد الميزانية المتوازنة سيدفع الحكومات نحو البحث في كيفية رفع كفاءة الإنفاق العام والبحث عن مناطق الهدر في هذا الإنفاق، ومحاولة ترشيد هذا الهدر، وهو ما يعتبر إحدى أهم الحجج التي تساق للدفاع عن مبدأ الميزانية المتوازنة. بناء على ما سبق يمكن تعريف مقترح الميزانية المتوازنة بأنه تعديل دستوري يهدف إلى تقييد الإنفاق الإجمالي للحكومة بحيث يكون أقل من الإيرادات العامة لها، أو على الأقل مساويا لهذه الإيرادات، وبحيث تتقدم الحكومة كل سنة إلى البرلمان بمقترح ميزانيتها العامة في السنة القادمة متضمنا تصوراتها لإيراداتها العامة من مصادرها المختلفة، وكذلك خطط إنفاقها المتوقع في إطار هذه الإيرادات، وبحيث لا يتم إقرار ميزانية الدولة إلا بعد استيفاء شرط توازن مقترح الميزانية، ولكن ماذا يعني ذلك؟ الإجابة هي أن ذلك يعني أن الإدارة الحكومية التي لا تلتزم بالعمل على توازن ميزانيتها ستصبح مخالفة لدستور البلاد، وهي مخالفة في منتهى الخطورة، لكن كيف ستتمكن الحكومات من التأكد من توازن ميزانيتها في كل سنة؟ من الناحية النظرية، مرة أخرى، فإن ذلك سيتم ببساطة من خلال تعديل مستويات الإنفاق بما يتوافق مع مستوى إيرادات الدولة، أو من خلال تعديل مستويات الإيرادات (الضرائب) كي تتوافق مع مستويات الإنفاق العام للدولة، وبحيث تقدم الإدارة الحكومية مشروع ميزانيتها في كل سنة على نحو متوازن من دون أن تضطر إلى الاستدانة وتكوين دين عام قد لا تتمكن من خدمته على المدى الطويل. من الواضح أيضا أن أهم مزايا المقترح أنه يضع قيودا على نمو حجم الحكومة ويطلق بالتالي المجال أمام القطاع الخاص للقيام بالمشروعات الأساسية للبنى التحتية وتقديم الخدمات العامة بدلا من الاعتماد على الدولة. مثل هذه المزايا للمقترح تبدو جذابة جدا عندما يتم تناولها من الناحية النظرية، لكن عندما نطبقها سنجد أن الأمر ليس بهذا القدر من النصاعة. صحيح أن مبدأ توازن الميزانية من المبادئ التي تتداول على الصعيد النظري منذ فترة طويلة، غير أن المقترح لم يجد طريقا إلى النور لصعوبة تطبيق المبدأ على أرض الواقع من الناحية العملية، نظرا للقيود التي يفرضها على حرية الحركة للحكومات، وما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مقبولة، خصوصا في أوقات الأزمات، عندما يتطلب الأمر تدخل الإدارات الحكومية بقوة لدفع مستويات النشاط الاقتصادي ومواجهة الآثار السلبية التي تلحق باقتصادها، بصفة خاصة بالنسبة للبطالة. لعل أهم أوجه الاعتراض على المقترح تتمثل في أن زيادة الإنفاق في الدول المدينة كافة حاليا تمت من دون أن يصاحبها تمويل من خلال زيادة الضرائب. بل على العكس لقد لجأ بعض الدول إلى خفض الضرائب. بالطبع عندما يتم خفض الضرائب فإن المحافظة على توازن الميزانية تتطلب تخفيض مستويات الإنفاق، وما حدث هو أن دول العالم كانت مضطرة إلى زيادة الإنفاق للتعامل مع مفرزات الأزمة، وبالطبع لا يمكن تصور وضع الميزانية عندما يزيد الإنفاق ولا تصاحب ذلك زيادة في الضرائب إلا من خلال منظور زيادة مستويات الدين العام، ومن ثم فإن نمو الدين العام كان أمرا طبيعيا في مثل هذه الأوضاع. من ناحية أخرى، فإن أخطر مشكلات المقترح تتمثل في أنه يقيد قدرة الحكومة على الاستجابة للمشكلات التي تترتب على الانخفاض الذي يحدث في مستويات النشاط الاقتصادي، بصفة خاصة ارتفاع مستويات البطالة، وكذلك قدرتها على توفير الخدمات العامة. ففي أوقات الانحسار الاقتصادي من الممكن أن يترتب على تراجع الإيرادات العامة للدولة (بصفة خاصة الضرائب) تأثر قدرة الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، حيث لا تستطيع الدولة رفع مستويات الضرائب، ولذلك فإن عجز الميزانية يعد أمرا أساسيا لاستمرار قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها في مثل هذه الظروف، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن يتم تطبيق مبدأ الميزانية المتوازنة بصورة حرفية في أوقات انحسار النشاط الاقتصادي من دون أن يصاحب ذلك تراجع واضح في مستويات رفاهية السكان، لذلك لا بد أن تصاحب المقترح خريطة طريق توضح للحكومة كيفية مواجهة التزاماتها في أوقات تراجع النشاط الاقتصادي. لهذه الأسباب ينظر البعض إلى مقترح الميزانية المتوازنة على أنها فكرة سيئة جدا، فعندما يحدث الكساد يزداد الإنفاق التقديري على الخدمات الاجتماعية مثل إعانة البطالة بينما تقل الإيرادات العامة للدولة، بصفة خاصة من الضرائب، ما سيؤدي إلى وجود فجوة في الميزانية، يصعب التعامل معها في ظل المقترح سوى من خلال تخفيض الإنفاق العام. وهو ما يترتب عليه تراجع مستويات النشاط على نحو أسوأ، ومن ثم تعميق آثار أي أزمة اقتصادية يمكن أن تمر على الاقتصاد المحلي. لذلك يرى البعض أنه لا يمكن أن يتم إقرار مثل هذا المقترح دون أن ينص على استثناءات لعجز الميزانية مثلما هو الحال في أوقات الأزمات أو في أوقات الحروب، حيث يصبح العجز أمرا لا مفر منه. وأخيرا، فإن المقترح يعني أنه في أوقات الأزمات ستشل السياسة المالية من خلال وقف الخيارات المتاحة أمام الحكومات للتحفيز المالي (تحفيز النشاط الاقتصادي من خلال زيادة الإنفاق العام أو تخفيض الضرائب)، ومن ثم لن يجد صانع السياسة الاقتصادية أمامه من خيار سوى الاعتماد بشكل أساسي على السياسات النقدية وتكثيف استخدام السياسات النقدية غير التقليدية مثل الجرعات المكثفة والمتتالية من التيسير الكمي مع ما يمكن أن يصاحبها من مخاطر على المستوى العام للأسعار والقوة الشرائية للعملات. الخلاصة هي أن تحقيق الحكومات توازن ميزانيتها مسألة ليست مضمونة في كل الأحوال، فالحكومات لا تستطيع أن تعيش من وقت إلى آخر من دون عجز، وقد يكون العجز أفضل الحلول أمام الحكومات في ظل الأوضاع الاقتصادية التي قد تقتضي ذلك، مثل أوقات الكساد والحروب، حيث ينظر إلى العجز على أنه ضرورة وليس ترفا، وحينما يتراجع الاستثمار الخاص بحيث تترتب على زيادة الإنفاق الحكومي زيادة الاستثمارات الخاصة وليس مزاحمتها.
إنشرها