Author

صدمة النمو في أوروبا

|
الآن هل تدخل أوروبا والعالم مرحلة تراجع أو كساد مزدوج؟ الكثير من المراقبين يؤكدون ذلك، لكن بالنسبة لي من الصعب الحكم حاليا على مدى صحة أو دقة هذا التوقع، فما زلنا في حاجة إلى المزيد من المؤشرات حتى يمكن الحكم بالفعل على تعمق الأزمة من عدمه. للأسبوع الثاني على التوالي أضطر إلى تغيير مخطط مقالاتي على ''الاقتصادية'' بسبب التغيرات المتلاحقة عالميا في الفترة الأخيرة. فبينما كنت أكتب في مقال مقترح الميزانية المتوازنة الذي كنت أخطط لإرساله للنشر هذا الأسبوع، فاجأتني الأنباء التي نشرتها مؤسسة الإحصاءات الأوروبية اليوروستات Eurostat ببيانات النمو في الربع الثاني من هذا العام في الاتحاد الأوروبي، التي جاءت مخيبة للآمال بصورة كبيرة في الاقتصادات الرئيسة في أوروبا، وبصفة خاصة في ألمانيا وفرنسا، وهو ما أدى إلى تعميق المخاوف بانعكاس انخفاض معدلات النمو في ألمانيا بالذات على الاقتصاد الأوروبي، الذي يستعد وفقا لآراء بعض المراقبين إلى الدخول في مرحلة كساد مزدوج. بل لقد أشار البعض إلى أن الاقتصاد العالمي بأكمله ربما يكون مهيئا للدخول في حالة تراجع مزدوج. #2# ووفقا لليورو ستات فإن الجدول رقم (1) يوضح معدلات النمو في منطقة الاتحاد الأوروبي خلال الربع الثاني من هذا العام، ومن الجدول يلاحظ أنه سواء بمقارنة معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الربع الثاني من هذا العام مقارنة بربع السنة السابق عليه، أو بمقارنته بمعدل النمو في ربع السنة نفسه في العام السابق، فإن معدلات النمو في الاقتصاد الأوروبي تتراجع على نحو مثير للقلق، على سبيل المثال نجد الاقتصادات الرئيسة مثل ألمانيا قد حققت معدل نمو 0.1 في المائة فقط في الربع الثاني من هذا العام، كذلك فإن فرنسا لم تحقق أي نمو على الإطلاق حيث بلغ معدل النمو بها 0 في المائة، بينما بلغ معدل النمو في هولندا 0.1 في المائة، وفي إسبانيا 0.2 في المائة، وفي المملكة المتحدة 0.2 في المائة، وإيطاليا 0.3 في المائة. هذه المستويات المتدنية للغاية لمعدلات النمو تثير المخاوف حول اتجاهات معدلات النمو الحقيقي في المستقبل في الاتحاد الأوروبي. مشكلة هذه البيانات هي أنها تعني أن أكبر اقتصادات أوروبا تواجه أسوأ تراجع في معدلات النمو بها في أعقاب الأزمة المالية العالمية، بعد أن تحسنت معدلات النمو نسبيا في الفترة السابقة. على مستوى منطقة اليورو (17 دولة) فإن معدل النمو للربع الثاني اقتصر على 0.2 في المائة فقط، وهو أقل قليلا مما كان متوقعا لهذا الربع الذي قدر بـ 0.3 في المائة. كذلك اقتصر متوسط معدل النمو في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) على 0.2 في المائة فقط، وبهذا الشكل تقتصر معدلات النمو السنوي حتى الربع الثاني من هذا العام في كل من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على 1.7 في المائة. ما إن انتشرت هذه الأخبار السيئة حتى اصطبغت مؤشرات أسواق الأسهم في العالم وللشركات الأوروبية الرئيسية باللون الأحمر جميعا في يوم واحد مرة أخرى، بعد أسبوع كان اللون الأخضر هو الصبغة الغالبة عليها، الأمر الذي أدى إلى توقف معدلات الصعود التي شهدتها البورصات العالمية في الأسبوع السابق، بعد خفض التصنيف الائتماني للدين الأمريكي. مصدر قلق العالم الأساسي من هذه المعدلات المنخفضة هو معدل النمو الألماني الذي جاء بصورة تقل عن التوقعات التي كانت تدور حول 0.5 في المائة. ووفقا للتقارير فإن السبب الأساسي لهذا التراجع في معدلات النمو يعود إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وانخفاض الإنفاق الاستثماري الإنشائي، وتراجع الصادرات الألمانية بفعل تراجع معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة في الولايات المتحدة وآسيا، في الوقت الذي تزايدت فيه الواردات من الخارج، مما أدى إلى حدوث عجز في ميزان المدفوعات انعكست آثاره في النمو. إذا أضفنا إلى معدل النمو الألماني معدل النمو الفرنسي فإن أكبر اقتصادين في أوروبا والمسؤولين عن نحو 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي يكونان في حالة ركود في الربع الثاني من هذا العام، الأمر الذي يلقي بظلاله على آفاق النمو الاقتصادي الأوروبي، وبهذا الشكل يتضح أن الماكينة الألمانية فشلت في دفع النمو في الاتحاد الأوروبي قدما نحو الأمام. من ناحية أخرى يصعب في ظل هذه الظروف أن تستمر سياسات الإنقاذ، التي أصبحت مسألة صعبة بعد أن قدمت الدولتين نحو 8 في المائة من ناتجهما المحلي الإجمالي كاعتمادات لتمويل عمليات الإنقاذ للدول المثقلة بالديون في منطقة اليورو. من ناحية أخرى، فقد كان البنك المركزي الأوروبي في بداية الربعين الثاني والثالث من هذا العام قد أعلن عن رفع معدلات الفائدة مرتين من 0.25 في المائة إلى 0.50 في المائة في 13 نيسان (أبريل) 2011، وإلى 0.75 في المائة في 13 تموز (يوليو) 2011، وذكر مدير البنك المركزي الأوروبي أن هذه الارتفاعات في معدل الفائدة في منطقة اليورو ستتبعها خطوات لرفع معدل الفائدة بصورة أكبر في المستقبل بهدف الحد من الضغوط التضخمية التي بدأت تتصاعد في منطقة اليورو، وهو ما نظر إليه على أنه بداية الخروج من سياسات معدلات الفائدة الصفرية والنقود الرخيصة. غير أنه أخذا في الاعتبار تلك التطورات على صعيد النمو فقد أصبحت احتمالات أن يقوم البنك المركزي الأوروبي برفع معدلات الفائدة بصورة اكبر في المستقبل محدودة. لذلك أتوقع حدوث تحول في اتجاه السياسات النقدية للبنك المركزي، الذي ربما قد يلجأ إلى إعادة خفض معدلات الفائدة مرة أخرى إذا تعمقت مشكلة النمو وتحمل قدرا أعلى من التضخم في مقابل دفع عجلة النمو. الصورة الأوروبية تبدو أيضا أكثر قتامة عندما نتابع التطورات في سوق العمل الأوروبي، حيث يشير الجدول رقم (2) إلى معدلات البطالة في منطقة الاتحاد الأوروبي، ويتضح من الجدول أن متوسط معدل البطالة في منطقة اليورو (17 دولة) ما زال مرتفعا ويصل إلى 10 في المائة تقريبا، بينما يصل متوسط معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) إلى نحو 9.5 في المائة، بينما تصل معدلات البطالة إلى مستوى رقمين في إسبانيا التي تبلغ معدلات البطالة فيها في الربع الثاني من هذا العام 21 في المائة، فإن معدل البطالة في إيرلندا بلغ 14.2 في المائة وفي البرتغال 12.2 في المائة، في الوقت الذي تقتصر فيه معدلات البطالة في فرنسا على 9.7 في المائة وفي إيطاليا على 8 في المائة، ويلاحظ أنه على الرغم من تراجع معدلات النمو في ألمانيا إلى هذه المستويات المنخفضة فإن البطالة تعد منخفضة نسبيا حيث 6.1 في المائة في الربع الثاني، وهو ما يوحي بأن أوضاع سوق العمل في ألمانيا ما زالت مطمئنة نسبيا، حيث ينخفض معدل البطالة الفعلي مقارنة بمعدل البطالة الطبيعي 5 في المائة، ما يعني أنه ما زال هناك مجال للنمو الكامن في الاقتصاد الألماني. والآن هل تدخل أوروبا والعالم مرحلة تراجع أو كساد مزدوج؟ الكثير من المراقبين يؤكدون ذلك، لكن بالنسبة لي من الصعب الحكم حاليا على مدى صحة أو دقة هذا التوقع، فما زلنا في حاجة إلى المزيد من المؤشرات حتى يمكن الحكم بالفعل على تعمق الأزمة من عدمه. فحتى هذه اللحظة معدلات النمو ما زالت موجبة بالرغم من تراجعها على نحو كبير، ومن ثم لا يمكن الحديث اليوم عن تراجع مزدوج إلا إذا تحولت معدلات النمو في الربع الثالث من هذا العام إلى معدلات نمو سالبة. غير أنه تجدر الإشارة إلى أن ارتفاع درجة عدم التأكد وانخفاض الثقة على نحو واضح في أوروبا يجعل من التعامل مع مشكلة الديون الأوروبية مسألة أكثر تعقيدا، ذلك أن التعامل مع مشكلة الديون يحتاج إلى معدل نمو مناسب، وعندما تتراجع معدلات النمو فإن مشكلة الديون تصبح أكثر خطورة. مما لا شك فيه أن البيانات القادمة من الاقتصاد الألماني تلقي مزيدا من الضبابية على الاقتصاد العالمي، خاصة أنها تأتي في أعقاب البيانات السيئة عن النمو في الاقتصاد الأمريكي في الربع الثاني هذا العام، الأمر الذي يؤدي إلى تصاعد المخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي على نحو خطير، وبما أن العالم قد استنفد كل خياراته وأسلحته التي توفرها السياسات الاقتصادية المختلفة للتعامل مع الأزمة، خصوصا في مجالي السياسة النقدية والمالية، فإن الخيار المتبقي أمام دول العالم حاليا هو العودة إلى حرب العملات، وهو احتمال غير متوقع، على الأقل في الوقت الحالي، وإن بدأت بعض الدول مثل اليابان وسويسرا في اتخاذ إجراءات للحد من التصاعد في قيمة عملاتها إزاء تراجع كل من الدولار واليورو في الفترة الأخيرة. لكني أتوقع حدوث صدمة كبيرة عالميا، بصفة خاصة في المنطقة الأوروبية، حيث من المنتظر أن تتراجع قيمة مؤشرات الأسهم، ومعدل صرف اليورو، بينما يحقق الدولار الأمريكي بعض المكاسب في ظل هذه الأزمة، وكذلك من المتوقع أن يتزايد الطلب على الذهب وترتفع أسعاره. بالنسبة لنا نحن في الخليج، فإنه، إضافة إلى الآثار المتوقعة على البورصات فإن تراجع معدلات النمو عالميا سيدفع بأسعار النفط نحو التراجع بصورة أكبر من تلك التي شهدناها في أعقاب تخفيض التصنيف الائتماني، ومن ثم أوضاعا مالية غير مريحة نسبيا أو أقل مما كان متوقعا في بداية السنة المالية الحالية.
إنشرها