Author

أمّي: لو حملتنا الطيورُ لسرنا إليكم - رمضانيات 5

|
*.. ووالدتي بعيدة في مكة، وأنا بعيد. أمي: قرأت اليوم فيما قرأت رسالة الإمام ابن تيمية لأمه وهو في الغربة، وقد أشجتني الرسالة، وهزت مشاعري عذوبة الكلمات، وجرى في حسي رفعة الحبّ وشعلة الشوق.. وإمامنا العظيم لا أساوي أمامه ولا أقارن إلا كما تقارن قطرة الماء بالبحر، أو ذرة الرمل بالبيداء. ولكن يا أمي تبقى أمّه وكل أم من أعظم رموز الإنسانية، لأنهن أنهار الحياة. أمي: علمتني بدون أن تكوني لي معلمة، ووعظتني بدون أن تقومي بدور الواعظ، وكنتِ القدوة والمثال، وكنتِ دوماً المآل، من صغري الباكر، إلى يومي الحاضر.. عندما أهرب من أي شيء إنما إليك، وعندما أحتمي من أي شيء إنما بك، وأنت دائما تقولين لي: إن الذي نلجأ إليه هو الله، وإن الذي يحمينا هو الله.. ألا أعرف ذلك؟ بلى، ولكنه منك يصب في قلبي، ثم يبقى نبعا في القلب. أمي: أول من علمني ألا أخاف وأواجه كل توقعات الحياة بشجاعة إنما أنت.. وأنا صغير تضعين لي الأشياء التي بمخيلتي دافعا وحافزا، لم تقولي لي يوما أنتَ واهم، أو أنها خيالات أطفال، أو نم يا حبيبي فأنت تحلم.. لقد كنتِ ببراعة الموجِّه توظفين أحلامي وتهيؤاتي فـُرَصا لبناء أشياء في شخصيتي، حتى يمتلئ الفراغُ بالجوهر لا الحشو.. إن أي جوهر قليل بشخصيتي إنما من صياغتك، وأن أي حشو كثير بشخصيتي إنما هو من بُنيتي وتكويني. تذكرين يا أمي أني أيقظتك صغيرا مفزوعا لأخبرك أني رأيت لصا يطل علي من النافذة من خلال الليل، وكان من كوابيس النوم. لم تُهدئي روعي، أو تعيديني للنوم، وأنه كان حلما سيزول، أتذكر الموقفَ كأنه اللحظة، لأني أستعين به متى غلبني الخوفُ، وخفت أن تتسرب مني الجسارة. نفضتِ اللحافَ من عليكِ، وقمتِ جادة جازمة، وكان أبي غائبا، وتناولتِ الكشّافَ ثم قلتِ لي: ''هيا نخرج لنطرد اللص فأنا خائفة وأنتَ رجل البيت، ومتى رأى اللص رجل البيت فإنه يهرب''.. وفعلا خرجنا معاً، والنتيجة هرب اللصّ الذي توهمت.. ولم يعد قط! أتذكر ذلك كل يوم، وكل موقف، كم من مرة ترددت بنشر مقالٍ صريح لأني شعرت بأن به ما قد يعرضني لسياط الخوف، فآخذ كشافك معي وأناضل كي يُنشر، لأنك علمتني أن الناسَ قد يسامحون خطئي، ولكنهم لن يغفروا كذبي. علمتِني دوما أن أؤمن أن الناسَ أذكى مني فلا يجب أن أتحايل عليهم، وهذا فعلا ما اكتشفتُ وتحققت، وهذا فعلا ما فعلت. فإن جاملتُ فأجامل من أقدر عليه ويقدر علي، وإن خرجت مني كلمة حق فهي لمن هو أكبر مني وأقوى لعل الكلمة تُنير، لأن الكبيرَ لا يحتاج التزلفَ قدر حاجته للكشف.. وأتذكر كما قلتِ أن اللهَ هو الحامي، وهو الملجأ. اليوم دائما تهرب مني شجاعتي فأتذكرك. إن أي إقدام إنما كسبته منك، وإن أي خذلانٍ وجبنٍ وتراجعٍ فإنما هو من بنيتي وتكويني. أمي: .. جنبتني وأنا صغير أخطاءً قد تأسرني وأنا كبير، وكنتِ دوما حريصة أن تعلمي أي شيء عنا، وكنت تقولين حين نستغرب: ''إن الأم تدري''، فصدّقنا. نسافر اليوم الأرضَ، ونختلط مع فئات الناس، ونتعرض لكل مغرٍ من المغريات، ولكن عند أي إغواءٍ أو غيبة عقل تخرج من ذاكرتنا الباطنة: ''الأم تدري''، فندير ظهورنا إلى الخطأ وضحكة الطفل الصغير تلمع في شفاهنا. إن أي استقامة بحسابها القليل في مسلكي وأخلاقي فهي من غرسك، وإن أي سوء بحساب غير معلوم في مسلكي وأخلاقي إنما هو من بنيتي وتكويني. أمي: وأنت من أخبرنا أن المدرسين ومدير المدرسة يكتبون إليك التقارير فصدقنا واجتهدنا. وعندما شكوتُ ذات ليلة من درس الحساب أخذت كتابي وقرأتيه كاملا بليلةٍ واحدةٍ ثم أعدت الأرقام زرعا في رأسي.. فتعلمتُ منك بدون كلمة منكِ. لا نولد كلنا موهوبين وعلينا أن نعمل ونجد أكثر، ولا نولد كلنا عباقرة، وعلينا أن نبني طريقا نحو التفوق.. إن أي تفوق قليل كسبته في الحياة إنما من زرعك الرقم الأول في دماغ صغيرك، وإن إخفاقاتي الكثيرة إنما هي من بنيتي وتكويني. وأقول يا أمي لكِ، كما قال ابن تيمية برسالته لأمة: ''يا أمي، لو حملتنا الطيورُ لسرنا إليكِ''..
إنشرها