Author

«الربيع العربي» بحاجة إلى ثورة في مجال الحوكمة والأعمال

|
من المؤكد تقريبا أن الانتخابات المقبلة في مصر وتونس واليمن (وليبيا أيضا في آخر المطاف) ستأتي بقوى جديدة إلى السلطة. لكن إذا لم تتغير هيكلية السلطة الموروثة في هذه البلدان فإن ''فرحة'' الثورات ستتراجع إلى واقع مرّ يتمثل في استمرار الإقصاء. وفي حال نجحت الانتخابات بإيصال قوى جديدة إلى السلطة، ستجد الحكومات العربية المقبلة أن تمكين فئات اجتماعية جديدة، كالشباب والنساء والفقراء (أي غالبية السكان)، يشكل تحديا حقيقيا، حيث يجب أن تتغير الأركان الأساسية في بنية السلطة والحكم التقليديين في المجتمعات العربية. تقليديا، ارتكزت بنية السلطة في الدول العربية على دول مركزية قوية، تتسم بنظام حكم يقوم على ''الضبط والسيطرة''، تحرسه آلة أمنية ضخمة. وهذه الدعامة تحديدا من بين دعامات بنية السلطة هي ما سعت الثورات إلى إسقاطه، ولعلّها نجحت في هذا. لكن من السذاجة الظن بأن إزالة الدولة الأمنية ستؤدي إلى تمكين الجماهير. إن الآلة الأمنية أداة رئيسة من أدوات إقصاء الناس، لكنها ليست الأداة الوحيدة. فثمة عامل مهم يعتبر الدعامة الثانية لبنى السلطة العربية التقليدية، ألا وهو ''البرجوازية الوطنية''. بعد الحركات القومية في الخمسينات والستينيات، نشأ تحالف غير مقدس بين الدولة وبعض المصالح التجارية الكبيرة في حقبة الثمانينيات وما تلاها؛ إذ سعت الدولة إلى مقايضة حق ممارسة الأعمال مقابل الحصول على الشرعية وعلى التعاون من جانب مصالح الأعمال القائمة. إن مجتمع الأعمال العربي يتكون إلى حد بعيد من شركات عائلية، ومن هنا فإن كثيرا من علاقات الأعمال ليست إلا امتدادا للعلاقات العائلية والشخصية. وهذا ما زاد في تركيز دائرة النفوذ في هذه المجتمعات، وزاد في تهميش أكثرية السكان، كما أن هذا التحالف لم يتسع ليشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل أكثرية الشركات في هذه البلدان؛ ما أدى إلى اتساع عمق الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون. إن نجاح الديمقراطية يتطلب من الحكومات معالجة مشكلة الإقصاء المنهجي المترسّخ في بنية السلطة الموروثة، وعلى وجه خاص فإن على نمط حوكمة الدولة أن يصبح أكثر تشاركية، كما يجب أن تصبح بيئة الأعمال أكثر انفتاحا وأكثر تمثيلا لمختلف فئات المجتمع. يجب على الحكومات إدخال اللامركزية إلى السلطة، حيث تصبح المناطق والمجتمعات المدنية شريكة فيها. ويجب أن تتحول آليات الحوكمة فيها من ''الضبط والسيطرة'' إلى ''توجيه وتسهيل'' مشاركة المنظمات غير الحكومية والشركات والاتحادات المهنية وممثلي المجتمع المدني. ومن شأن هذا أن يضعف الروابط التقليدية بين الدول والبرجوازيات الوطنية، فتحل محلها علاقة أكثر تشاركية مع المجتمع بشكل عام. والواقع أن المشاركة مع الحكومة تزيد من فرص وجود علاقات أكثر انفتاحا واحترافية بين المجتمع وقطاع الأعمال. وستضطر الشركات إلى توسيع دائرة تعاونها لتشمل مراكز الأبحاث والفكر، والمنظمات الاجتماعية، ومؤسسات العلاقات العامة؛ وذلك بغية التأثير في العلاقات بين الحكومة والجسم الاجتماعي، وإدارتها. إن هيمنة الشركات العائلية، سيجعل الإصلاح تحديا أكبر أمام الحكومات. ففي الستينيات أممت الحكومات كثيرا من هذه الشركات العائلية، لكن التأميم أثبت فشله. وما يلزم حقا هو سلسلة من الإصلاحات في قانون حوكمة الشركات، لجعل هذه الشركات أكثر شفافية وتمثيلية، وأكثر قابلية للمساءلة. ويمكن للحكومات أن تدفع الشركات في هذا الطريق من خلال اتباع سياسة العصا والجزرة. يجب أن يصبح التمثيل الواسع لمختلف الفئات الاجتماعية، المهمشة سابقا، نموذجا عاما للإصلاحات الجديدة. ويجب التفكير أيضا في تكافؤ الفرص وأنظمة الحصص التي تضمن مشاركة الشباب والنساء والعاطلين عن العمل. ويجب أن تتسع المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث تشمل المسائل المتعلقة بتمثيل تلك الفئات. وعلى الحكومات إيجاد مؤسسات قانونية تراقب الالتزام بالإصلاحات الجديدة وتعمل على إنفاذ هذا الالتزام. ستساعد زيادة شفافية وتمثيل بيئة الأعمال على اجتذاب استثمارات جديدة وعلى تقليل الاضطرابات الاجتماعية. ومن غير إصلاحات كهذه، فإن المساحة المتاحة حاليا للفساد والمحاباة يمكنها أن تبتلع ثمار الديمقراطية. ما زالت ثقافة الأعمال العربية تتسم بالسرية وعدم الرسمية، وهذا مناخ ينشط فيه الفساد والتستر على الأخطاء. إن رحلة التمكين طويلة، لكنها كأي رحلة، تحتاج إلى الخطوة الأولى. وعلى الحكومات أن تستخدم سلطاتها من أجل إصلاح إداراتها وجعلها أكثر تشاركية وأقل إقصائية، وعليها أن تعمل بالتوازي مع ذلك من أجل جعل بيئة الأعمال أكثر انفتاحا ومسؤولية، وأكثر تمثيلا أيضا.
إنشرها