في مطارات أمريكا العسكريون أولا

في مطارات أمريكا العسكريون أولا
في مطارات أمريكا العسكريون أولا

كلما دخلت أي مطار أمريكي، أشعر بصدمة خفيفة من الثقافة العابرة للأطلسي. والسبب ليس حجم علب الصودا، أو الاكتظاظ في الدرجة السياحية، أو أمن المطار المتطفل. القضية تتعلق بالقوات المسلحة.
في أوروبا، من النادر أن ترى أي شخص يرتدي الزي العسكري، وما هو أندر من ذلك بكثير أن تسمع تمجيدهم بعبارات رمزية. إلا أن الحشود في مطار الولايات المتحدة مليئة بأشخاص يرتدون الزي العسكري، ومن الشائع أن تسمع مكبر الصوت في المطار يعلن أن ''أفراد الجيش وعائلاتهم'' يمكنهم الدخول إلى صالات خاصة. والأكثر إذهالا أن بعض شركات الطيران، مثل يو إس إيرويز وأميركان إيرلاينز ودلتا تسمح بشكل روتيني للعاملين في القوات المسلحة بالركوب على متن الطائرة قبل الجميع، بل وحتى قبل ركاب الدرجة الأولى.

#2#

ويمنح هذا الامتياز أحيانا فقط لأولئك الذين يرتدون الزي العسكري، لكنه يشمل بصورة متزايدة أي شخص يحمل بطاقة عسكرية. والرسالة واضحة: حتى لو كان المال والسلطة ورصيد البطاقة البلاتينية يشترون أي شيء تقريبا في أمريكا، فإنه حين يتعلق الأمر بالطائرات، يركب العسكريون أولا.
هل هذا أمر جيد؟ في المرة الأولى التي لاحظت فيها ذلك اعتقدت أنه أمر جيد بالتأكيد. فلا أحد يشكك في التضحيات التي قدمتها عائلات العسكريين في الآونة الأخيرة. وتوفير بعض صالات المطار الخاصة لهم يبدو أقل ما يمكن فعله. وفي الحقيقة، هذا يجعل دولة مثل بريطانيا، التي لا يهتم المدنيون فيها بالقوات المسلحة، تشعر بالخزي.
لكن عند التفكير في الأمر، بدأت أرى أيضا معنى كامناً أكثر قتامة لهذه الإعلانات للعسكريين بالركوب أولا في الطائرة. ففي القرون القليلة الأولى من التاريخ الأمريكي، كان يفترض أن يتم حل الجيوش بين الحروب، بما أن أمريكا دولة مدنية يديرها مدنيون. وخلال الحرب العالمية الثانية، تغير هذا ومنذ ذلك الحين أصبحت المجمعات العسكرية قوية ومنتشرة ودائمة.
ويصر المدافعون عن الجيش على القول إن هذا نتيجة حتمية للعالم الخطر غير المستقر، حيث تعمل الولايات المتحدة في الواقع شرطية للعالم. إلا أن النقاد يختلفون معهم في هذا الرأي. مثلا، في الآونة الأخيرة كتب هنري جيرو، أحد الباحثين المؤسسين للتربية النقدية في الولايات المتحدة، مقالا يدعو للتفكير في مجلة كاونتربانش على الإنترنت، يستنكر فيه ''العسكرة'' الزاحفة على المجتمع الأمريكي. وقال: ''إن ثقافة العنف المنظم هي إحدى أقوى القوى التي تشكل المجتمع الأمريكي، فهي تضرب بجذورها عميقا في كل جوانب الحياة الأمريكية''. وأضاف ''ما من شك أن أمريكا أصبحت دولة حربية دائمة''، مشيرا إلى بيانات دراسات السلام التي تظهر أن ''الإنفاق العسكري الأمريكي شكل 43 في المائة من المجموع العالمي عام 2009، تليها الصين بنسبة 6.6 في المائة، وفرنسا بنسبة 4.3 في المائة، والمملكة المتحدة بنسبة 3.8 في المائة''. وتظهر الأرقام الأخيرة الصادرة عن ائتلاف كونكورد، وهي مجموعة غير حزبية، أن الإنفاق على الدفاع يمثل 20.6 في المائة من الميزانية الفيدرالية الأمريكية عام 2010، في المرتبة الثالثة فقط بعد الإنفاق على الصحة والضمان الاجتماعي.
ولعل معظم الأمريكيين سيرفضون انتقاد البروفسور جيرو، لكن حتى لو كانت بعض حججه تبدو مبالغ فيها، إلا أن النقاط التي يطرحها تستحق النقاش. وأحد الأمور التي تقلقه، مثلا، تنامي النفوذ العسكري في مجال التعليم العالي في الولايات المتحدة. (لا يوفر الجيش منحاً دراسية فحسب، بل يقوم بالتجنيد في حرم الجامعات وبتمويل البرامج الأكاديمية، مع جفاف مصادر التمويل الأخرى). ومن الأمور الأخرى التي تقلقه دور الجيش في الدبلوماسية. وفي الآونة الأخيرة قال رونالد نيومان، وهو سفير أمريكي سابق، إن هناك ''عسكرة تدريجية للسياسة الخارجية الأمريكية على مدى السنوات الـ 20 الماضية''. إلا أن أكثر ما يقلق البروفيسور جيرو هو الصمت الاجتماعي. فهو يقول: ''على الرغم من مدى استنزاف النفقات العسكرية للأموال الضرورية للغاية من البرامج الاجتماعية، إلا أنه نادرا ما يتم نقاش الميزانية العسكرية في الكونجرس، أو تكون موضوع نقاش جدي بين الشعب''. وهو على حق في ذلك. وربما يتغير هذا الآن. فالولايات المتحدة مجبرة على تخفيض دينها وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الدعم الشعبي للحرب الأفغانية انهار. لكن لا تراهن على حدوث هذا في أي وقت قريب - ليس في الوقت الذي يأخذ فيه معظم الأمريكيين الوضع الراهن كأمر مسلم به بحيث لا يلاحظون هذه الصالات العسكرية الخاصة في المطارات.

الأكثر قراءة