Author

نحو استثمار أمثل للفرصة الصيفية

|
أقبلت الإجازة، وأخذ الكثير منا في الاستعداد لها بالسفر أو بالعمل أو بالتعلم أو بالتدريب أو بالتطوير أو بغير ذلك مما يخطط له غالب من يستثمرون إجازاتهم الصيفية، إلا أن ثمة الكثير منا أيضاً لا تحرك الإجازة تفكيره، ولا تمثل قيمة مختلفة في معاييره، فهي لا تحفز همته، ولا تشعل حماسه، بل هي عنده فترة معتادة، أو مرحلة متعاقبة، فلا يكلف نفسه حتى مجرد المحاولة، للوقوف الجاد على مشارفها، والتفكر الفاعل لما ينفعه فيها، فضلاً عن أن ينظر إليها كفرصة لا تعوض، أو سانحة لا تقدر بثمن. وقيل إنه ما انقضت ساعة من دهرك إلا بقطعة من عمرك. أجدني ملزماً بالحديث عن الفرصة الصيفية لما لها من الأهمية البالغة في نظام حياتنا (علماً بأن إجازاتنا الصيفية هي الأطول عالمياً)، ولأننا لم نزل بعد في بدايتها، فهي في نظري فرصة سانحة للتغيير والتطوير، لا سيما وقد أجيز الكثير منا من أعمالهم ومشاغلهم، وأصبحنا في بحبوحة من الوقت الذي هو أنفس ما نملك، وأثمن ما نربح، والفرصة فيه فرصة لا أغلى منها ولا أعز، فهي كالشهاب الذي ما يلبث أن يظهر في الأفق، ثم يشتد ضوؤه، وسرعان ما يخبو، لا يراه إلا من يبادر. إن الفرصة الثمينة لا تنتظر طويلاً حتى نأتيها، ولا تقدم نفسها ببساطة حتى نقبل عليها، إنها لحظة انبثاق مفاجئة، ووقع قدوم جديد، تؤذن لمن يبادر إلى استثمارها بفتح باب جديد إلى حال أفضل، وسبيل مختصر إلى عالم جميل، إنها لحظة اختيار حاسمة بين الانطلاق والتألق، أو الدعة والسكون، ورحم الله الشاعر البارودي حين قال: بادرِ الفُرصةَ، واحذر فَوتها فَبُلُوغُ العزِّ في نَيلِ الفُرص واغتنم عُمْركَ إبانَ الصِبا فهو إن زادَ مع الشيبِ نَقَصْ فابتدر مسعاك، واعلم أنَّ من بادرَ الصيدَ مع الفجرِ قنص إن الفرص العظيمة ما هي إلا تجمع لفرص أقل منها، والمثابرون المبادرون هم الذين يحسنون استثمارها، ويقنصون صيدها، وكما يقول بابلو بيكاسو معبراً عن هذا المعنى الرائع: سواء كانت في السماء، أو في الأرض، أو في قصاصة ورق، أو في منظر عابر، أو في خيوط عنكبوت، علينا أن نلتقط ما يفيدنا أينما لاح لنا. فلا شك أن فرصاً قابلناها ونقابلها، أو مرت بنا، أو تمر علينا، أو ربما تنتظرنا في أكناف المستقبل المنظور.. لكن القليل منا من استثمر أو يستثمرها، والقليل أيضاً من انتفع أو ينتفع من مرورها،.. إنه لا بد لنا من الاعتبار بالماضي، كما لا بد لنا من استثمار الحاضر وبالتالي النظر الثاقب للمستقبل، فالزمن هو رأس مال الإنسان في حياته، بل هو المادة ''الخام '' لتحصيل أساسياته وضرورياته، ولا يمكن أن يبني الإنسان حياته، ويعمر أرضه، ويعيش الرخاء والرفاه إلا باهتمامه وحرصه على خام الحياة الأساس، الذي هو الوقت، حيث به تستخرج كنوز الخير، وتفجر منابع الثروة، وتؤسس الحضارات العظام، ودائماً الاهتمام به، والحرص على استثماره هو أهم ما يميز الأمم المتقدمة، والشعوب المتحضرة، حتى غدا استثماره والاهتمام به ثقافة متأصلة لدى بعض الدول والمجتمعات، فمكاسب الزمن ليس لها ثمن، وضياعه أعظم خسارة نتكبدها في حياتنا. إذا ما مضى يومٌ ولم أصطنع يدًا ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري يقول الأديب الأستاذ محمد أمين ـــ رحمه الله ـــ حاثاً على الاستفادة من الزمن، وكيفية الاستثمار الأمثل لفرص الوقت في الحياة، ومصوراً حال الأمة يوم تستشعر قيمة الوقت في حياتها، وتعي أهمية الفرص في زمانها.. كيف تقبل على رقيها، وتمضي في تقدمها، يقول – رحمه الله – بتصرف: ''وكل مثقف يستطيع أن يحرك في نفسه هوىً لشيء جدي في نوع من أنواع المعارف، يدرسه ويتوسع فيه ويتعمقه سواء كان أدبًا أو حيوانًا أو أزهارًا أو ميكانيكا أو تاريخ عصر من العصور أو أي ضرب من ضروب المعارف الإنسانية، ثم يثير رغبته فيه ثم يخصص جزءًا من يومه لدراسته والاهتمام به فإذا هو إنسان آخر له ناحية من نواحي القوة، وله شخصيته المحترمة وله نفعه لنفسه ولأبناء جنسه وسواهم، وإذا الأمة غنية بأبنائها في شتى فروع العلم والمعارف، وإذا الناس في مجالسهم يرقى حديثهم، ويسمو تفكيرهم، وتنضر حياتهم، ويكتسب بعضهم من بعض ثقافة وعلمًا وأدبًا وسلوكاً وتقديرًا للزمن وإذا الثقافة ارتقت، والعقول اتسعت، والحياة سمت، والقوة ازدادت وسبل المعيشة تيسرت وازدهرت، إذ ذاك يشعر الناس أنه لا حياة لهم دون غذاء، ولا غذاء دون محافظة على الزمن وكسبه، والاستفادة المثلى فيه، وعندئذ يرتقي اﻟﻤجتمع وأهله بيئةً وفكرًا وصناعة وإنتاجًا وعطاءً ونفعًا ثم يواصل حديثه فيقول: إن الأمة تعيش عُشْرَ ما ينبغي أن تعيش أو أقل من ذلك سواءٌ في إنتاجها المالي أو ثقافتها العقلية أو حالتها الصحية، وباقي حياﺗﻬا هدر في كسل أو خمول، ولا ينقصها لتعيش كما ينبغي إلا أن تكشف طريقة ملء الزمن وخضوعه لحكم الشرع والعقل''. يقول أبو الطيب المتنبي: هو الجد حتى تفضل العين أختها.. وحتى يكون اليوم لليوم سيدًا. إن استثمار الإجازة فيما يفيدنا، ويطور من قدراتنا ومهارتنا في الحياة فرصة سانحة أمامنا، وتوشك أن تطوى صفحتها إلى غير عودة، فلماذا لا نملؤها من اليوم في ما ينعكس علينا نفعاً وتطويراً وتهذيبا، فماذا نريد أن نصنع في هذه الفرصة الصيفية..؟، وماذا نريد أن نحقق فيها من أهداف..؟ ما المهارات التي تنقصنا ويتطلبها تخصصنا لنشرع في اكتسابها وتنميتها..؟ هيا بنا نفكر من الآن،.. هيا نخطط لها وننطلق إلى دائرة الفعل والعمل، هيا إلى النجاح بحماس،.. هيا بنا لنكون، يقول صامويل أولمان: لا أحد يكبر بمجرد أن يحيا عددًا من السنين، إننا نكبر بإهمالنا لمثالياتنا، فقد تتسبب السنون في تجعد البشرة، ولكن التخلي عن الحماس يتسبب في ظهور تجاعيد الروح ... ودمتم سالمين.
إنشرها