Author

حبٌّ لا يعوّض!

|
استيقظ الكاتب الكنديّ الشهير هوارد إينغل في صباح أحد الأيام وخرج ليلتقط صحيفته من أمام الباب، ليُفاجأ بأنها كُتبت بحروف لا يستطيع تهجئتها. قلَّب إينغل الصفحات محدثًا نفسه بأنها مزحة يحاول أحدهم تجربتها معه، لكن الصحيفة كلها كانت بمنزلة خربشات هيروغليفية لا يستطيع لها تفسيراً! في منزله تفحّص كل شيء يحمل نصاً مطبوعاً، كل شيء حوله كما هو إلا النصّ المكتوب. فكّر فوراً بأنه ربّما أصيب بجلطة دماغية، وحالما وصل للمستشفى وخضع للفحص اكتشف الأطباء المسعفون بأنه أصيب بجلطة عرضت مركز التعرُّف على النصوص للتلف. ما دفعه لهذا التخمين كونه قد قرأ في السابق عن حالة الرسام الذي أصيب بعمى الألوان التامّ بعد تعرُّضه لحادث سير وإصابة خطيرة في الرأس. هذا التلف الحاصل يسمّى أليكسا أو عمى الكلمات، ويشترك مع الدسلكسيا (عسر القراءة) إلا أن الفرق بينهما أنّ الأليكسا هي فقد القدرة المكتسبة - سابقاً - على القراءة، بينما عسر القراءة هو الاضطراب الذي يمنع البشر من تعلم القراءة بشكل طبيعي مع توافر الوسائل والإمكانات العقلية الكافية لها. خلال بقاء هوارد في المستشفى لفتت انتباهه إحدى الممرضات بأنه لم يفقد القدرة على الكتابة وقام بتجربة بسيطة، واكتشف أنه يستطيع القراءة بينما هو يكتب، ولكنه ما إن يترك كلماته التي كتبها ويعود إليها بعد برهة، فإنها تتحول لرموز لا يمكنه قراءتها. بعد التعرُّف على قصة إينغل فكرت بعمق في الأثر النفسي العظيم الذي قد تتركه حادثة من هذا النوع على مهووس بالقراءة من الدرجة الأولى، ولم يكتفِ بذلك، بل هو من جهة أخرى كاتب تحقق سلسلة كتبه المتخصصة في التشويق ومغامرات المحققين أعلى نسب المبيع. يتحدث للكاميرا في وثائقي خاصّ أعدته ''بي بي سي'' عن حالته والكثير من الحالات التي درسها طبيب الأعصاب الأشهر أوليفر ساكس، يتحدث إينغل عن مكتبته وحبه للكتب ويصف شعوره عندما أفرغت الرفوف من الكتب بأنه قد ''سُرق''، وأن بهجته الوحيدة سُلبت منه. لكن هل يستسلم؟ طوّر هوارد إينغل موهبة اكتشفها بنفسه بتمرير أصابعه على الحروف المطبوعة والقراءة، ثم رسم شكل الحرف داخل فمه مستعينا بلسانه ومواضع الأسنان! وهكذا يحفظ تدريجيا الرمز المرتبط بكلّ حرف. التغيير الهائل بالنسبة له أنه أصبح بدلاً من أن ينهي كتاباً كل ليلة، أصبح في حاجة إلى شهر كامل لإنهاء قراءة الكتاب. لم تتوقف القصة عند تعلم القراءة من جديد وحسب، إنما أكمل إينغل مسيرته الكتابية وكأن شيئاً لم يتغير، بعد الحادثة أصدر مزيداً من الكتب من سلسلة المحقق بيني كوبرمان (شخصيته الرئيسة في السلسلة) وكتاب مذكّرات وضعه بالمشاركة مع أوليفر ساكس عن ''الرجل الذي نسي كيف يقرأ – The Man Who Forgot How To Read'' عن تجربته التي أقلّ ما يُقال عنها إنها ملهمة. يفتتح الكتاب بصفحات خالية مع الإشارة إلى أنها تُركت خالية عمداً، ربما كي لا يعتقد القارئ أنّه أيضاً فقد القدرة على القراءة. يصرح إينغل أيضاً في كتابه ''كنت ذا موهبة واحدة، وموهبتي هي القراءة أو كما قالها بالإنجليزية''He was a one trick pony, and his trick was reading ''. مساحة المقال لا تكفي – ولن تكفي – للحديث عن تفاصيل الكتاب الذي وضعه إينغل، الشاهد من هذه القصة التي اختصرتها أعلاه هو التساؤلات التي تشغلني دائما: لماذا تجاهل هذه النعمة العظيمة؟ أحاول كثيراً وضع نفسي في مكان شخص لم يسبق له، واكتشف متعة الغرق في كتاب من الغلاف للغلاف، كيف ستبدو الحياة من عينيه؟ كيف هو حجم عالمه، وهل يضيق حوله ويشعره بالاختناق؟ أم أن الحياة تواصل سيرها دون أن ينتبه؟
إنشرها