Author

هوس الهدم

|
تكاد تتفق معظم المجموعات البشرية بكل انتماءاتها ومرجعياتها الأيديولوجية والثقافية أن المجتمعات البشرية تعيش أزمة قيم في الفترة الراهنة.. كما تتفق أيضا على أن طبيعة الأزمة ليست ناتجة عن نقص في القيم ولكن في عدم قدرة هذه المجتمعات أن "تحدد الاتجاه الصحيح لهذه القيم" على حد تعبير ماتسورا. وقد أثبت تاريخ الحضارات أن فقدان الاتجاه الصحيح هو أخطر داء قد يصيب المجتمعات، بمعنى أن المجتمع الذي لا يعلم إلى أين يسير هو حتماً مجتمع معتل ومتأخر ومصاب بالتيه ويدور في حلقة مفرغة. وإذا تساءلنا ما الأسباب التي تؤدي إلى ارتباك بوصلة المجتمعات وعدم السير في الاتجاه الصحيح؟ وعن سبب التخبط والغموض وضبابية المسار والمستقبل.. نلاحظ عند شباب المجتمعات الغربية على وجه الخصوص نزعة وردة فعل أشبه ما تكون بالتلقائية ليس نحو البناء والتشييد وإنما نحو الهدم، إذ غالباً أن ما يُطرح في الندوات واللقاءات والحوارات في الإعلام يهدف إلى هدم وتفكيك ما هو قائم من دون استعراض لمبادرات بديلة أو طرح حلول ملائمة لهذه التحديات. والمهم لدى هذه الأصوات الأكثر حضورا والأعلى صوتا من الأصوات العميقة والعاقلة التركيز على عدم صلاحية وملاءمة الأفكار المطروحة، مما يعني باختصارٍ شديد أن الهدم أصبح هو الغاية. ومن أهم النماذج التي تستحق التأمل والتوقف تكمن في تلاشي مفهوم الأسرة ومكوناتها ومحيطها كقيمة مركزية في الغرب. ويأتي هذا التلاشي والضمور نتيجة تغلب النظرة المادية على قيم الزواج والنسل والتكاثر واحترام الوالدين والتكاتف. وذلك لدرجة أنه بمجرد إثارة موضوع الزواج أو الحديث عنه أمام معظم الشباب الغربي يتحول الموضوع إلى السخرية وعدم الجدية، أما من يبدي امتعاضه وقلقه من هذا الموضوع فإنه يسوق الحجج والبراهين على أن الزواج في السياق الغربي الحالي غير مجد، وأنه إذا واجه هذا المشروع أي إشكاليات فإن الرجل هو الخاسر أولا وأخيرا، فضلاً عن كونه سيصبح ضحية لمجموعة من القوانين من الحكمة ألا يتعرض لها حتى لو تطلب الأمر أن يتجاوز موضوع الزواج برمته وأن يفضل العلاقة الشكلية على العلاقة الشرعية. إن نَزعة الهدم واضحة من خلال الكثير من الأصوات التي تنادي بالقطيعة مع ما سبق والتخلي جملةً وتفصيلاً عن تلك القيم التي كان لها الفضل في بناء مقومات الشخصية العربية الإسلامية، وهذا أخطر سلوك يمكن أن تواجهه مجتمعاتنا الإسلامية.. في حين أن الغرب نجح وتقدم حضارياً بسبب القطيعة مع ما سبق في ماضيه وخصوصاً فيما يتعلق بالدين.. كما أننا نلاحظ في الفترة الراهنة أن الغرب يحاول تكرار ما حدث في إحداث القطيعة مع بعض القيم العلمانية التي كان يظن في فترة من الزمن أنها السبيل الوحيد نحو التقدم والازدهار وسعادة الإنسان. في مجتمعاتنا الكثير منا في حاجة إلى المصالحة مع ما سبق واستيعاب تلك القيم الإسلامية التي نحن بحاجة إلى فهمها واستيعاب حكم دروسها في الظروف الراهنة، ثم السعي نحو وضعها في مسارها الصحيح.. وفي ظل الأزمة الحضارية التي يعيشها العالم والعالم المتقدم على وجه الخصوص من خلال طغيان النزعة الدائمة إلى التفكيك وتحطيم القيم، يراود الكثير ومن ضمنهم مجموعة من المثقفين والكتاب في الغرب أنه آن الأوان للقيم الإسلامية أن تدخل معترك القيم الكونية وأن تستعرض قوتها الحضارية وأن يتم التبادل والمشاركة حول نظرة الإسلام الحقيقي للعالم وللأشياء من حولنا. لذلك لا بُدَّ من الانطلاق في استعراض القيم الإسلامية من جوهر الدين الإسلامي والتي تكمن في عدم الإكراه وفرض نظرتنا للقيم وللأشياء على الآخر والإيمان بسنة الاختلاف وتقديم أخلاقيات الإسلام وقيمه ومثله والتعرف عليها في إطارها الشامل كمنظومة متكاملة، وذلك للسير وبسرعة أكبر نحو عالم أكثر عدلا وحرية ومساواة واحتراما. والمتأمل لخطاب الكثيرين ممن يتناولون التحديات التي تواجه مجتمعاتنا يجد أن الكثير من الأُطروحات واضحة في دعوتها للهدم والتفكيك والتخلي ولكنها غامضة أشد الغموض في طرح ما تهدف إليه. وفي وجهة نظري أن أخطر ما يواجه مجتمعاتنا العربية اليوم هو أننا فعلا لا نعلم ماذا نريد.. ولكي نسير نحو مجتمع وثقافة تأخذ مكانها في الحيز الوطني والكوني، فلا بد أولاً أن نعلم ونحدد ماذا نريد.. وهذا مع الأسف ما ينقص الكثيرين ومن كل الفئات والأطياف والانتماءات. ومن المهم أيضا لكي نضع القيم في مسارها الصحيح ونعيد للأخلاق حضورها في عالمنا، أن نبادر إلى استحضار النماذج المضيئة في التاريخ الإسلامي والأسس التي قامت عليها هذه النماذج والتي من أهمها القبول بتعدد الهويات واحترامها والتعايش معها والاستفادة منها.
إنشرها