Author

في سورية.. رهين الاقتصاد والقوة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
''الزعيم أو الرئيس المنغمس في أزمة، يُقْدم دائماً على أفعال لا إرادية غريبة، وبعد ذلك يفكر بالأسباب التي دفعته إلى أفعاله'' جواهر لال نهرو أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال سواء اعترف الرئيس السوري بشار الأسد، أم لم يعترف، فقد أصبح ''رهين محبسين''، لا يشبهان بالطبع (من حيث طبيعتيهما) محبسا الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري. فالمحبس الأول للشاعر، لم يكن إرادياً، لأن عماه لم يكن كذلك، والمحبس الثاني كان شخصياً صرفاً، عندما اعتزل الناس لأسبابه الخاصة جداً. أما محبسا الأسد، فهما إراديان، يرتبطان بعائلة هو عميدها، ونظام هو قائده. الأول، عندما قرر مواجهة المظاهرات السلمية، بقوة مريعة تجاوزت مستوى الإفراط، التي سحبته تلقائياً إلى محبسه الثاني، والمتمثل بإمكانية انهيار الاقتصاد السوري، أو على الأقل تأرجح هذا الاقتصاد، لا على أرض صلبة، بل على حافة الهاوية. ووفق ذلك، فقد حبس نظامه وعائلته في دورة إراقة الدماء، وانحبس في مجهول اقتصادي، في بلد ظل اقتصاده الوطني، ''معتقلاً'' (على مدى عقد من الزمن على الأقل)، في أيدي مجموعة قليلة جداً من رجال الأعمال، اكتسبوا هذا التوصيف، إما عن طريق التعيين، أو عبر الانتساب الأسري.. ولا بأس من الولاء الأعمى! لو كنت مستشاراً للأسد (ولن أكون)، لما نصحته في تناول الموضوع الاقتصادي في خطابه الثالث، منذ اندلاع الثورة في سورية (إذا ما اعتبرنا أن كلمته الأخيرة أمام مجلس الوزراء هي بمثابة خطاب)، لأن هذه القضية كرست ضعفاً كبيراً لنظامه، لا سيما عندما أولى اهتماماً بالغاً، للإيداعات المالية في المصارف السورية التي لا تزيد على ألف ليرة سورية، أي ما يوازي 20 دولاراً أمريكياً! واعتبر مثل هذا النوع من ''الإيداعات'' شكلاً من أشكال العمل الوطني للفرد السوري! لقد فتح الأسد على نفسه بوابات لسيل من الأسئلة، لعلها تُختصر بسؤال واحد هو: هل الاقتصاد السوري وصل إلى هذه الحالة المرعبة؟ وفي الوقت نفسه، عمق القناعة، لدى قطاعات عريضة من المجتمع السوري، بل والمجتمع الدولي المراقب لما يجري في البلاد، بأن القائمين على الاقتصاد السوري، المهدد بانكماش مريع قبل نهاية العام الحالي، قد يعجزون عن دفع رواتب موظفي الحكومة في غضون شهرين أو ثلاثة أشهر على أبعد تقدير. وبرزت أسئلة من نوع، هل سيقوم النظام بطبع العملة بدون سند؟ وإلى أي حد سيصل انخفاض قيمة الليرة السورية؟ وهل سيلجأ النظام إلى الحل الوحيد في مثل هذه الظروف، وهو طلب المساعدات والمعونات؟ وهل سيجد من يقدم له هذه المساعدات في هذا الوقت بالذات؟ كان منسقو الثورة في سورية يراقبون بأعلى جودة من المتابعة خطاب الأسد. وفور إشادته بـ ''وطنية'' الفرد السوري الذي يودع ألف ليرة في المصارف، أطلقوا حملة على الإنترنت، وضعوا لها عنوان ''سنعمل على تفتيت دعامة الاقتصاد مع المحافظة على أموال الشعب''، ربما من المفيد نقلها كما هي، في سياق استعراض المشهد السوري كاملاً: ''تعلمون أنّ الوضع الاقتصاديّ السوري في الحضيض، وأن الليرة ستنهار أو ستخسر شيئاً كثيراً من قيمتها، وستشهد البلاد موجة ارتفاع للأسعار، خصوصاً مع حرق المحاصيل، وتهجير الكثير من العمّال وما إلى ذلك. وحفاظاً على أموال الشعب، نطلب من الجميع ما استطاعوا، تحويل ما لديهم من أموال إلى عملات أجنبيّة، ولا يشترط التقيّد بالدولار الأمريكي، بل يمكن شراء الفرنك السويسري أو اليورو أو أيّ عملة صعبة أخرى في متناول اليد، مهما كان المبلغ المدّخر بسيطاً. لا تنسوّا أنّ النّظام يستعين بمالنا على قتلنا، ولذلك فإنه من البديهي ألا ندفع أي شيء طالما أنه يحاربنا''. من الواضح، أن القائمين على تحريك الثورة، يتحركون في كل الاتجاهات في المواجهة من نظام الأسد (ما عدا استخدام السلاح). وسواء خططوا أم لم يخططوا، فإن الأمور تتجه إلى ما يمكن اعتباره عصياناً مدنياً، تخشى منه أعتى الأنظمة في العالم. وكلنا يعرف كيف ساهم هذا العصيان في تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، عندما اتخذه المهاتما غاندي سلاحاً وحيداً في مواجهة هذا الاستعمار. والحقيقة أن الأسد فهم خطورة ''العصيان المالي'' – إن جاز التعبير - في مرحلة لاحقة من اندلاع الاحتجاجات في سورية، وأمر بفرض سقف على السحوبات بالعملات الأجنبية، خصوصاً بعدما فشلت عمليات التحفيز التي أقدم عليها الأسد، في امتصاص الغضب الشعبي، عندما أصدر مراسيم متوالية، لزيادة الرواتب وتقديم تسهيلات يستفيد منها موظفو القطاع العام والطلاب وغيرهم. أما لماذا فشلت، فلأنها أولاً لم تتضمن المطالب الرئيسية الأولى بالحرية وآليات هذه الحرية، وثانياً نشرت غضباً مضاعفاً عند الشرائح الأشد فقراً في سورية. فحتى هذه الزيادة في الرواتب التي لم تأت تلقائياً، بل لاعتبارات ترتبط بالثورة، عمقت الفوارق بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وكرست الحالة البائسة في المناطق الأشد فقراً. لقد كانت ببساطة، بمثابة حبوب أسبرين تُعطى لرجل مصاب بالسرطان في مراحله الأخيرة. يمكن تلخيص الوضع الاقتصادي في سورية بالنقاط التالية: هروب الاستثمارات الطبيعية – أي الحقيقية -، فرار الاستثمارات الفاسدة – أي المرتبطة بمدى قوة السلطة -، تراجع متواصل لقيمة العملة الوطنية (خسرت خلال ثلاثة أسابيع ما بين 15 و20 في المائة)، شح السيولة، تحويل أكثر من 10 في المائة من احتياطي المصارف الخاصة، إلى مصارف في الخارج، في غضون أقل من شهرين فقط، خسارة مداخيل الموسم السياحي التي تمثل ما يقرب من 12 في المائة من الدخل العام (هناك من يقول إنها تصل إلى 18 في المائة)، توقف مشاريع وتراخي أخرى مرتبطة بالبنى التحتية في سورية (المظاهرات عطلت ثلاثة مشاريع استثمارية خليجية كبرى)، هشاشة متعاظمة لسوق الأوراق المالية، تردد ما تبقى من الرأسمالية الوطنية التي ارتضت أن تكون جزءاً من السلطة، والانتظار ما أمكن لمعرفة لمن ستكون الغلبة. أمام هذا المشهد الاقتصادي، الذي يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، أصبحت هناك قناعة عند المراقبين المحايدين – لا المندسين ولا المتآمرين - بأنه إذا لم يتمكن المتظاهرون السلميون الإطاحة بنظام الأسد، فسيكون بمقدور الاقتصاد ذلكن وقد وصلت – على سبيل المثال - مجلة ''تايم'' الأمريكية إلى هذه القناعة، ومعها جريدة ''الفاينانشيال تايمز'' البريطانية الرصينة. وهذه نتيجة طبيعية لأي حالة تمر بها دولة ما. ولعلي أضيف هنا، في إشارة إلى أن السوريين الذين لا يزالون في مرحلة ما قبل إعلان العصيان المدني، يتجهون على ما يبدو بسرعة لإعلان هذه الحالة. فقد التزم عدد كبير من التجار في مختلف أنحاء سورية، بإضراب عام ليوم واحد، دفع السلطات إلى اعتقال ما أمكن منهم. والإضرابات – فيما لو تكررت - تؤدي حتماً إلى ''استجلاب'' عصيان مدني. وإذا كانت مدته غير معلومة، إلا أن نتائجه لا تحتاج إلى خبير اقتصادي لتوقعها أو حتى لشرحها. إنها – حسب التاريخ - نتائج حتمية لمصير محتوم.
إنشرها