Author

رسوم الأراضي البيضاء.. دائرة أخرى من دوائر الجدل

|
تداولت وسائل الإعلام الأسبوع الماضي خبر القرار الذي أصدره مجلس الشورى، الذي طالب فيه وزارة الشؤون البلدية والقروية بفرض رسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن، وهو القرار الذي أثار عاصفة من ردود الأفعال المؤيدة والمعارضة، وأدخل الناس مواطنين ومفكرين وكتابا حتى مسؤولين في دائرة واسعة من الجدل حول آثار هذا القرار السلبية والإيجابية، حتى بدا لي كأنه صادر من مجلس الوزراء أو المقام السامي وليس من مجلس الشورى. والحقيقة، أن هذا الجدل الذي أعده جدلا بيزنطيا حول قرار صادر من مجلس الشورى لا يحمل أية صفة سوى صفة التوصية أو المشورة غير الملزمة، إنما يعبر عن صراع الأهواء والمصالح في هذا الشأن كما هو في كثير من الشؤون التي تمس مصالح الناس ومتطلبات معاشهم، علاوة على أنه يمثل إجماعا على أهمية هذا الموضوع وحتمية تأثيره في قضية أصبحت هاجسا لكل مواطن، ألا وهي قضية الإسكان. وعلى أية حال، فإن هذه الدائرة إنما هي واحدة من دوائر الجدل العديدة التي يخوض فيها الناس، بما فيها الجدل الدائر حول قضايا البطالة ونطاقات التوطين، والرهن العقاري والإسكان، وقيادة المرأة السيارة، وغيرها الكثير والكثير من القضايا التي لا تعدو أنها مواضيع للجدل والنقاش والأخذ والرد، حتى يقيض الله لها من يتخذ منها موقفا حاسما، ويصدر قرارا بشأنها، مع أن هذا الحسم وهذا القرار يمكن أن يأتي أحيانا بمردود سلبي، كونه جاء منفصما ومنفصلا عن اتباع آليات التشريع الفاعلة، التي يفترض أن يلعب فيها مجلس الشورى دورا محوريا وأساسيا، عوضا عن أن يقتصر دوره على إصدار قرارات لا تتجاوز مكانة الرأي والمشورة والتوصية، علاوة على مراجعة التقارير البائتة للدوائر الحكومية، أو الاتفاقيات الشكلية بين المملكة والدول الأخرى. أعود إلى الحديث عن موضوع رسوم الأراضي البيضاء، فأقول إن هذا القرار، إن كتب الله له أن يرى النور، فإنه لن يكون حلا سحريا لمشكلة ارتفاع أسعار الأراضي، فالمشكلة تتطلب العديد من الإجراءات والآليات التي يمكن لها في المحصلة أن تحقق المعالجة المأمولة. قلت إن كتب الله له أن يرى النور، ويأتي هذا القول انطلاقا مما رأيته وسمعته من موقف وزارة الشؤون البلدية والقروية من هذا الموضوع، وهي التي أجزم أنها لم توله ما يستحق من الدراسة والتمحيص، مع أنه كان دوما حديث الصحف وكثيرا مما تضمه من مقالات، ومطلبا سابقا من مجلس الشورى قبل عدد من السنوات لم يجد من يلقي له بالا في ذلك الحين. كنت قد حضرت منذ نحو أربعة أشهر لقاء مع أحد كبار المسؤولين في الوزارة، وطرح أحد الحضور سؤالا على ذلك المسؤول حول موضوع فرض الزكاة أو الرسوم على الأراضي البيضاء في المدن. أجابه المسؤول بأن موضوع الزكاة إنما هو موضوع شرعي فقهي لا دخل للوزارة فيه، أما موضوع الرسوم فإن الدولة - ولله الحمد - ليست في حاجة إلى فرض أي رسوم وقد حباها الله بموارد مالية ضخمة تغنيها عن إثقال كواهل المواطنين بفرض أية ضرائب أو رسوم. تلك الإجابة من ذلك المسؤول أبرزت مقدار غياب الفهم للدوافع الحقيقية وراء هذا المطلب، والآثار المأمولة منه في تصحيح ومعالجة الحالة المرعبة التي وصلت إليها أسعار الأراضي، وما أصبحت تشكله من عقبة كأداء في حل قضية الإسكان وغيرها من قضايا التنمية العمرانية. وإذا كانت الوزارة المسؤولة لا تملك هذا الفهم لهذه المشكلة، فكيف لها أن تتفاعل بإيجابية مع قرار أو توصية مجلس الشورى؟ وإذا كان الرهن العقاري قد استغرق حتى ما يزيد على خمس سنوات ولما يبصر النور بعد، فكيف بنا ونحن نطالب بقرار يتعلق بموضوع ليس قاصرا على الفهم الصحيح وحسب، بل إنه يمثل خطرا محدقا بكثير من أصحاب المصالح المتنفذين، الذين يمكن أن يكونوا من المؤثرين في اتخاذ القرار في الوقت ذاته. إن هذا التعارض في المصالح هو ما يفسر غياب دور اللجان العقارية في المناداة والمطالبة بفرض هذه الرسوم، وهو ما يفسر تلك الهجمة الشعواء التي شنها عدد من الخبراء من أصحاب الصنعة على قرار مجلس الشورى، مع أنه لم يصل ولم يقارب بعد مرحلة النفاذ. قلت إن فرض الرسوم على الأراضي البيضاء لن يكون حلا سحريا لمعالجة مشكلة ارتفاع أسعار الأراضي، فالحل كما أقول دائما لا بد أن يأتي شاملا كاملا ممنهجا قائما على فهم عميق لجذور المشكلة. لكن هذا المطلب في الحقيقة مطلب ملح أيما إلحاح، حتى ولو أتى مبتورا عن مجمل منظومة الحل، وحتى إن لم يحدث الأثر المأمول منه على المدى القصير، بل حتى لو أنه أتى بأثر معاكس فصعد بأسعار العقارات، وهو ما لا أراه ممكن الحدوث حتى ولو أراد أصحاب المصلحة. إن ما تبذله الدولة في سبيل مد الخدمات إلى مواقع نائية على أطراف المدن إنما هو من موارد ومقدرات الدولة التي تمثل حقا لمواطنيها، ولهم من هذا الحق أن يدفع المستفيدون ثمن إيصال تلك الخدمات إلى أراضيهم فيما هم يختزنونها ليزيدوا من أرباحهم على حساب مكتسبات الناس وتوفير متطلبات حياتهم ومعاشهم وتعطيل التنمية في مدنهم وقراهم. إن الغرض الرئيس من فرض الرسوم على الأراضي البيضاء ليس دعم خزانة الدولة، فهي كما قال ذلك المسؤول في غنى عن هذا الدعم، وليس الانتقام من ملاك الأراضي واستنزافهم، فالوطن أكبر من ذلك، بل إن الهدف هو دفع هؤلاء الملاك ليعيدوا الأرض إلى ما يجب أن تكون عليه، أداة للبناء والتعمير، بدل أن تكون سلعة تباع وتشترى. الأرض يجب أن تكون عنصرا في دورة إنتاجية مكتملة العناصر هدفها إنتاج وحدات عقارية قابلة للاستخدام والاستهلاك، ويجب ألا تكون لها أي قيمة مبالغ فيها قبل اكتمال ذلك المنتج النهائي. وهي في ذلك مثلها مثل أي مادة خام في أي دورة إنتاجية صناعية، فقيمة المنتجات الأساسية التي تنتجها وتبيعها شركة سابك على سبيل المثال لا تخضع لممارسات المضاربة والاحتكار التي نشهدها في حالة الأراضي، حتى لو وقع مثل ذلك الاحتكار هبت الدول والجهات الحكومية لمحاربته والاقتصاص منه. في الوقت الذي تعظم قيمة هذه المواد الأساسية بعد تحويلها إلى منتجات نهائية قابلة للاستخدام والاستهلاك. خلاصة القول، فرض الرسوم ناهيك عن الزكاة الشرعية على الأراضي البيضاء مطلب ملح أيما إلحاح، وما يشهده هذا الموضوع من جدل يعكس - كما قلت - صراعا على المصالح. والمطلوب أن يتم تناول هذا الموضوع بشكل عاجل بيد الرعاية والحسم التي مدها قائد المسيرة خادم الحرمين الشريفين إلى كثير من الأمور التي بقيت معلقة لمدد طويلة فيأمر فيه بما يستحقه من إنفاذ. فلو ترك هذا الموضوع في يد مجلس الشورى ووزارة الشؤون البلدية والقروية فإنه لن يرى النور حتى يكون هذا الغلاء المشهود قد أهلك الحرث والنسل، وقضى على كل الآمال بمعالجة أم القضايا، قضية الإسكان، حتى لو أنيط الحل بوزارة الإسكان ومنهجها الذي يدور حوله كثير من الشكوك.
إنشرها