Author

قـُمْ بعملِكَ يا صديقي.. أعدِمْني!

|
.. أنا لا أدعو للموت كي تفوز القضايا التي يؤمن بها أصحابُها، ولا يجب أن تفوز القضايا بقرابين تُقدَّمُ على مذابح الأهداف العليا. ولكن الموت في سبيل قضيةٍ يعطينا بلا شك مقياساً أكيداً للإقدام والإخلاص لتلك القضايا والإيمان المنقطع لها وبها. .. إن إعدامَ السيد قطب كان الخطأ الأكبر الذي وقع فيه العهدُ الناصري، عندما كان الاعتقادُ بأن التخلص منه "نهائياً" يعني التخلص من مدرسته الفكرية "نهائياً".. الذي حصل العكس تماما، وعجيبٌ أن يكون الموتُ سببا للانبعاث العظيم للأفكار. إن تاريخ الأفكار يفصح أن نشرها إنما يكون بعقاب أصحابها، اسجنْ مفكراً تنتشر أفكارُه.. أعدمه، فقد جعلتَ منه شهيداً خالداً في أعين وعقول مريديه.. ولكن من يأخذ بعبر التاريخ؟! بعد أن رحل السيد قطب، صارت قصة رحيله أسطورة بين مناصريه ومؤيديه، فمع حقائق البطولة تُنسَج ملاحم الأساطير، فتتردد قصة إعدامه عندما ترجّتْهُ أختهُ زينب ومعها وعد عفو من الرئيس عبد الناصر بعد أن يتراجع عن آرائه، وكان ردّه: "ألا تريدين لي الجنة؟" ولما طلب منه العشماوي أن يسترجع الشهادتين، قال له: "إني أموت في سبيلهما.. أكمل." "ومارتن لوثر كنج" داعية الحقوق الأسود الأمريكي صاحب رؤيا الحلم الشهيرة لم يكن لمدرسته الحقوقية أن تأخذ هذا الانتشار وتكون صرعة الستينيات وتحول التاريخ العنصري في الولايات المتحدة ومن ثم العالم لو لمْ يمُت برصاصةٍ غادرة، وكان يُحذَّر يوميا من الظهور العام أمام الحشود من قنّاص متربّص ليقضي عليه، وكان يردد أن الموتَ سيوقد شعلة روح جديدة ستظل أميركا.. وحصَلْ. وأني أجد عبرةً تاريخية كبرى لأمور الحكم أيضا في واحد من المفكرين الكبار الإنجليز، الذي عاصر القرنين الثالث عشر والرابع عشر ميلادي وهو السير "توماس مور". وعلينا أن نتأمل في قصة السير توماس من جوانب كثيرة، فكل سيرة زاوية أو أكثر تستحق التأمل. إن السير "توماس" مازال مسجلا في وعي الذاكرة البريطانية والأوروبية كمناضل من الأبطال الأساطير الذين جعلوا للحرية السياسية نصراً في بريطانيا وأوروبا. والسير "توماس" هو صاحب الكتاب الممتع والمدهش الذي يحتذي فيه بمعلمه الأشهر أفلاطون، "اليوتوبيا Utopia"، وتعني المدينة الفاضلة، حيث العدل والمساواة. السير "توماس" كان الرجل الثاني بعد الملك، فالملك هنري الثامن اختاره لحمل أختام المملكة، يعني لا يمرّ مرسومٌ ولا قرارٌ إلا بين يدي حامل المفاتيح، إنه مثل السكرتير العام للملك أو رئيس الديوان. وتدركون معنى هذا القرب الملكي، فمثل هذا المنصب يجعل صاحبه ملكا واقعيا موازيا غير متوّج، و(قد) تقف على آرائه ونفوذه وطرائق تفكيره وسلوكياته مقدرات الدولة ومصائر الناس. إن طبائعَ الرجال الذين يكونون قرب الملوك هم من تصطبغ بهم سلوكيات الدول.. شيءٌ أملاه علينا التاريخ، وما زال. "توماس مور" كان مخلصا لمليكه ومخلصا لأمته ولشعبه حتى جاء بعض المنتفعين بصيغة جديدة للوارثة الملكية كانت تعني ضررا مباشرا في إدارة أمور المملكة، وكان على السير توماس أن يتقدم للقسم إخلاصا للنظام الوراثي الجديد، على أنه فاجأ الجميع، ولم يقسم بل وطعن بنظام وراثي إقطاعي، فغضب الملك ورماه بأشنع أنواع السجون في برج لندن، حيث تم تعذيبه عذابا لا يستطيع أن يتحمله الناس العاديون، ولكنه الإيمان والإخلاص للمبدأ واعتقاده بأن ربّه معه. لما جاءت زوجته تركع تحت رجليه تتوسله (وصيغة توسلها من أجمل عبارات الرجاء بالإنجليزية الكلاسيكية) تطلبُ منه أن يعتذر للملك ويعود حرا، مسح على رأسها مبتسما وسألها: "أتريدين أن تعيشي بدوني مع الفخر بي، أم تعيشي معي مع العار يلاحقني؟" ثم خاطب جلاده وقال دعني أحلق لحيتي، وكان قد ترك للحيته العنان بالسجن، ولما حلق قال لشعرات لحيته: "طيري في آفاق الحرية بعد أن رافقتني بالسجن، كي لا تتبعيني للموت". ثم تقدم لجلاّده ضاحكا مبتسما وربّتَ على كتفيه وقال له الجملة الشهيرة: "هيا يا صديقي لا تدع الخوفَ يستولي على قلبك، وقم بواجبك.. أعدمني!" بعدها صار "مور" أيقونة كل أوروبا ونشر النور بعد ظلام، فيقول صديق عمره الهولندي إيراسموس Erasmus عنه: "حمل السير توماس الشعلة في عصر الظلام الذي غمر أوروبا، كان من أعظم المغامرين في لُجج بحار العلم والفكر والحرية". انطفأ في يومٍ من العقد الثالث من القرن الثالث عشر السير "توماس مور".. ولكن إلى حين. صار كتابُه "اليوتوبيا" مفتاحَ أبواب الحرية كما قال "روسّو" الفرنسي. وترون أن عقابَ المفكرين المخلصين أكبر وسيلةٍ لانتشار مدارسهم. لقد قاله التاريخ، ثم أثبته .. وما زال!
إنشرها