Author

الباحثون عن المرايا

|
إنه نوع من النرجسية، التي يعرفها علماء النفس على أنها الوقوع في "حب الذات" ، والفرد هنا لا يقع في حب ذاته الأصلية بل في حب صورته مما يسبب جدبا في حياته الداخلية. هي الرغبة في أن أبدو مظهرا لا أن أكون حقيقة، وفي توجيه الاهتمامات وصرف الجهود في سبيل المحافظة على بريق الصورة الخارجية، واختناق الجوهر الداخلي تحت أعشاب المباهاة والتنافس المادي، والجري السريع للبروز في المجالس والتغذية من مديح الآخرين، حيث يتخلى الشخص عن أناه ليصبح الصورة المنعكسة التي تظهر في مرآة المجتمع. هذا النوع من الأشخاص ليس له حياة خاصة داخلية بل هو موجود فقط بلغة قبول الآخرين أو رفضهم، فهو يكافح دوما للحظوة باستحسانهم مما يفصله في النهاية عن "أناه الفردية"، التي تستبدل بـ "أنا مزيفة" تجعله يعاني شعورا مدمرا من الاغتراب الذاتي. يسعى النرجسي دوما لإحاطة نفسه بنوعية "الناس المرايا"، الذين يستخدمهم لعكس صورته البراقة، وينزعج ممن يرفضون أن يكونوا مرايا لأنهم لا يفيدونه في تغذية نرجسيته، ويمكننا القول إن تبلدا أو موتا داخليا قد أصاب كيانه الحقيقي مما يجبره على تكريس كل جهوده في سبيل بقاء صورته. وقد يقال إن المرأة أكثر ميلا للوقوع في النرجسية من الرجل، لكن نرجسيتها تختلف عن نرجسيته في التوظيف، ففي حالة الرجل توجه نحو المكافحة في سبيل السلطة، بينما توظف عند المرأة في سبيل التنافس على جذب الأنظار، وهذا التنافس هو الذي يحملها إلى الفرح عندما تكون ملابسها هي الأجمل وتصبح محط اهتمام الجميع في حفلة ما، مما يجعلها تقضي شطرا كبيرا من حياتها أمام مرآة خيالها، وتستشيرها مرارا حول المقبول وغير المقبول في مظهرها والوسائل التي يمكن أن تساعدها على تطويره. على ذلك الوتر تعزف شركات الإعلان والتسويق لكل من الطرفين، وتصنع لنا نماذج يمكننا أن نطلق عليها "أناس الشاشات" تسوق من خلال صورتهم منتجاتها، وتشجع عقول الناس على تبني السلوك الاستهلاكي، حيث تصمم المجموعة الضخمة من أجهزة التسلية بذكاء مدروس لا يبعث الملل في نفوس الأطفال والكبار، وتخطيط خبيث يمنع أية محاولة للاستبطان الداخلي أو التأمل العميق أو النمو الروحي، وينجح بصورة تدريجية متسللة على تغليف التفاهة والعبث بألوان جذابة. إن التأثيرات الخفية للقصف الحواسي الذي تمارسه علينا هذه الأجهزة كبيرة جدا فيما يتعلق بإضعاف الشخصية والإرادة وتزييف الواقع، حين يقاد الفرد إلى تبني خيارات تعتمد على المظهر وليس المحتوى، كما نصبح بسبب الانبهار بالصورة وبأناس الشاشات عاجزين عن الالتفات إلى القدرات الاستثنائية عند الآخرين الذين لا يمتلكون تلك الصورة المبهرة، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره في قسمه".
إنشرها