Author

نطاقات.. رؤية أشمل

|
مشروع وزارة العمل ''نطاقات'' ينمّ عن جدية الوزارة وعزمها في مواجهة البطالة عبر آلية تصنف مستوى توظيف المواطنين في الشركات والمؤسسات. وأرى أن المشروع يحقق غرضين: الأول، يؤسس لقاعدة معلومات تساعد في وصف الوضع القائم ونسب توزيع العمالة الوطنية بين الشركات، والغرض الثاني رفع مستوى الوعي والتمييز بين الشركات وإسهامها في التوظيف وحثها على تطوير سياستها التوظيفية والتدريبية للانتقال من مستوى أقل إلى مستوى أعلى من توطين الوظائف. المشروع يجب أن ينظر إليه كبداية لحل مشكلة البطالة وعملية مستمرة، وهو ما أكد عليه وزير العمل، حينما أشار إلى أنه تطويري في طبيعته، أي يعتمد على الاستفادة من التجربة التطبيقية في بناء الخبرة التراكمية وتوجيه مساره وتشكيله مع مرور الوقت. وهذا توجه حميد؛ لأنه يعتمد على المرونة ومحاكاة الواقع ويتيح الفرصة للمشاركة والتعديل والتطوير حسب مقتضيات الأوضاع المختلفة. الرسالة التي يبعثها الوزير - في ظني - هي أن سياسات التوطين ستكون موضوعية ومحايدة ومبنية على الأرقام والإحصاءات، والمهم أنها تجعل جميع المؤسسات في دائرة الضوء مكشوفة أمام الرأي العام وأصحاب القرار ليتم على أساسها تحديد الدعم الحكومي المالي والإداري المباشر وغير المباشر ودرجة الاستحقاق والقبول الاجتماعي. المشروع يسهم في تحديد أماكن الخلل والنطاقات الحرجة في توطين الوظائف ويساعد في توجيه الجهود والتركيز عليها لتكون أكثر كفاءة وفاعلية وتأثير. البعض قلل من أهمية المشروع وانتقده دون تقديم مبررات وبدائل وبادروا في الحكم عليه بالفشل حتى قبل البدء به! ما نحتاج إليه هو الحكمة والنظر لقضية توطين الوظائف من منظور مشترك تعاوني وتكاملي. ولكن للأسف هناك من يخشى تعديل الأوضاع ووضعها في مسارها الصحيح لكي لا يفقد مصالحه الذاتية الآنية وإن كانت على حساب المصالح الوطنية، وهناك المتحمسون الذين يرغبون في القفز على مراحل التطوير ويستعجلون الأمور قبل أوانها ويعتقدون أن التخطيط والعمل المرحلي مضيعة للوقت! وهناك من يستهويهم التقليل من جهود الآخرين فيفزعون نحو انتقاد أي عمل ويفتشون عن العيوب والنواقص ويتغافلون عن المنافع والفوائد. والحقيقة ليس هناك سياسة عامة في أي مجتمع يتفق عليها الجميع؛ لأن السياسات العامة في أصلها قرارات عامة تعكس إلى حد كبير التوافق بين الآراء المتباينة وتقريب وجهات النظر؛ لأن الناس يتفاوتون في أذواقهم واحتياجاتهم ومصالحهم وتطلعاتهم. ولا شك أن قضية البطالة من أصعب القضايا؛ إذ تتضارب فيها المصالح ويتطلب التقريب بينها جهدا مضنيا يعترضه الكثير من العوائق والصعوبات وتتعدد فيه الآراء حول المعادلة العادلة والمنصفة لجميع الأطراف. وعلى أن مشروع نطاقات في مرحلته الأولية يحقق أغراضا وأهدافا أساسية، إلا أن من الضروري توسيع دائرة تعريف توطين الوظائف وإضافة معايير للتصنيف تتعدى مستوى الشركات إلى التصنيف على مستوى القطاعات الاقتصادية والتجارية والصناعية المختلفة. فهناك على سبيل المثال قطاعات يسيطر عليها الأجانب مثل قطاع الدعاية والإعلان والتأمين، وهي قطاعات ذات دخول عالية تناسب العمالة الوطنية وتتعدد فيها المهام، وبالتالي لا تحتاج في معظم أعمالها إلى خبرة طويلة ومهارات فنية عالية متخصصة. وهذا التصنيف مهم لفك الاحتكار وسيطرة رأس المال والعمالة الأجنبية على تلك القطاعات وغيرها. ما نحتاج إليه هو نظرة واسعة لسوق العمل واستراتيجية تستطيع التعامل معه بجميع تعقيداته وتداخلاته؛ حتى لا تلهينا الجزئيات عن فهم الصورة الكبيرة وتمكننا من إعادة ترتيب قواعد اللعبة من جديد لفائدة العمالة الوطنية. أمر آخر في غاية الأهمية وهو نسب التوظيف في المناصب القيادية، سواء في الإدارة العليا أو المستويات الإدارية الأدنى، فالعبرة ليست بالكم فقط ومستوى نسبة التوطين وحسب، ولكن نوعية الوظائف التي يعمل بها المواطنون. على سبيل المثال هل المؤسسة التي توظف 50 أو حتى 100 مواطن مؤهل في وظائف متدنية الدخل غير مهارية أفضل؟ أم مؤسسة يتولى فيها عشرة مواطنين مناصب قيادية؟ ولذا يكون من الضروري أخذ التكلفة الإجمالية لرواتب المواطنين بالحسبان في عملية حساب نسبة السعودة لتكون المقارنة عادلة بين المؤسسات ولتدفعهم نحو التحول من توفير وظائف متدنية تحقق نسبة توطين عالية في الظاهر ولكن بتكلفة منخفضة، إلى دفعهم وتحفيزهم نحو إتاحة الفرصة للمواطنين من ذوي المؤهلات في تقلد مناصب قيادية ووظائف ذات معايير مهنية عالية. إن جزءا من مشكلة توطين الوظائف يعود إلى كون المسؤولين في بعض المؤسسات من غير المواطنين ويعمدون بقصد أو دون قصد في توظيف أبناء جلدتهم حتى ولو استدعى ذلك تنفير العمالة الوطنية والضغط والتضييق عليهم بأساليب في ظاهرها نظامية وموضوعية، لكنها عمليا عكس ذلك تماما. قد يكون من المهم توفير وظائف، ولكن الأهم أن تكون هذه الوظائف ذات دخول عالية تتناسب مع مؤهلات الباحثين عن العمل. هذا لا يعفي المؤسسات من تقديم برامج تدريبية تأهيلية للمتقدمين للعمل كل حسب تخصصه، فمن المعلوم أن التعليم العالي هو لتطوير القدرات والمهارات والمعارف للشخص ذاته، وجعله أكثر قدرة على الاستيعاب والتفكير وليس لإتقان عمل بعينه فهذه مهمة التدريب. ولذا كان لزاما على المؤسسات توفير التدريب بدلا من وضع شروط تعجيزية مثل شرط الخبرة لمدة طويلة تتجاوز في بعض الأحيان السنوات العشر! الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن البال هي أن القطاع الخاص ما زال يعتمد على الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر؛ ولذا هناك حاجة إلى توطين هذا الدعم عبر سياسات حكومية صارمة تربط بينه وبين توظيف المواطنين لضمان استفادة جميع شرائح المجتمع خاصة الأقل حظا من هذا الإنفاق السخي، وفي الوقت ذاته الحد من تسرب الأموال خارج الوطن ليعاد استثماره مرات عدة؛ ليسهم في النمو الاقتصادي ويعود بالنفع على الجميع وأولهم رجال الأعمال. وحتى يكون سوق العمل عادلا ويعمل بكفاءة يجب أن تكون أجور المواطنين الأعلى بسبب فارق مستوى المعيشة؛ ولأن العمالة الوافدة طارئة على سوق العمل المحلي وتؤثر على مستوى العرض والأجور، ولو افترضنا أنه تم إيقاف جلب العمالة من الخارج فإن ذلك حتما سيؤدي إلى زيادة أجور العمالة الوطنية أضعافا مضاعفة وستجد إقبالا منقطع النظير على جميع أنواع العمل. المطلوب في الوقت الراهن تغيير المعادلة بين تكلفة العمالة الوطنية والأجنبية بفرض رسوم على توظيف الأجانب، حيث تغري أصحاب العمل بتوظيف المواطن وإلا سيستمر أصحاب العمل في توظيف الأرخص، وهو منطقي وحق مشروع في غياب أنظمة تحرمه.
إنشرها