Author

عنق الزجاجة

|
يستخدم تعبير (عنق الزجاجة) لوصف الكثير من الظواهر في حياتنا اليومية، كازدحام السيارات عند المخارج الرئيسة، أو ازدحام الأفراد عند الخروج من مكان ما، كملعب رياضي أو غيره. في الاقتصاد أيضا يستخدم التعبير لوصف عدم القدرة على استيعاب الطلب العام على سلعة أو خدمة معينة؛ مما يشكل خللا رئيسا في هيكل الاقتصاد. على سبيل المثال، قد يكون هناك عدم قدرة على استيعاب الطلبات المقدمة من الأفراد لدخول جامعة معينة؛ مما يعني أن الطلب يفوق بشكل كبير الطاقة الاستيعابية للجامعات، فيتشكل في هذا الإطار ما يسمى بمسار عنق الزجاجة. قد يكون التعبير بديهيا ونتناوله بشكل يومي دون إلقاء الاعتبار له، لكنه أيضا ينطوي على الكثير من العناصر التي تحتاج إلى تحليل واستقراء دقيقين لاستيعابها بشكل أفضل، وبالتالي فهم الظواهر الاقتصادية التي نشهدها. في حالة الطرق أو الجسور مثلا، قد يتشكل عنق الزجاجة بسبب الزيادة الكبيرة في عدد السكان الذين يستخدمون هذه الطرق عما هو مخطط له في السابق، دون الاستجابة لهذه الزيادة من خلال إيجاد طرق بديلة. وقد يتشكل عنق الزجاجة بسبب نمو العمران عند هذه المخارج، حتى أصبحت تضيق على الطرق وتشكل عنق الزجاجة. والفرق بين الإثنين، أن الأول هو تغير ناتج عن زيادة الطلب على الطريق، وليس عن نقص أو (إنقاص) قدرته الاستيعابية لعناصر ليس لها دخل في استخدامه الرئيس كما حصل في الحالة الثانية. ما يحدث في قطاعات الاقتصاد الأخرى، مشابه تماما لحالة الطريق الذي أشرت إليه، فإما أن يكون هناك زيادة كبيرة في الطلب تشكلت عبر الزمن، ولم يكن هناك قدرة على توقعها ليستجاب لها بشكل ملائم، أو بسبب حدوث صدمة طلب مفاجئة (ارتفاع مفاجئ في الطلب) على سلعة أو خدمة معينة. أو قد يكون هناك حد للعرض من السلعة أو الخدمة، سواء بطريقة مفتعلة أو بشكل غير مقصود من بعض التشريعات والتنظيمات غير المدروسة التي تسنّها بعض الجهات الحكومية. هذه العوامل تشكل ما يسمى في الاقتصاد (بعنق الزجاجة للعرض) supply bottlenecks. وهنا أود أن أشير إلى أن كثيرا مما نشهده اليوم من عدم قدرة العرض من السلع على الاستجابة إلى الطلب المرتفع عليها يعود بشكل أساسي إلى الكثير من التشريعات التي تنظم هذه الأنشطة، أو طريقة الترخيص لها، والتي تقع تحت مسؤولية جهات معينة لها أولويات محددة، تركز عليها فقط، دون اعتبار لقطاعات أخرى. وهذا بالتالي يؤدي إلى انخفاض الاستثمار في هذه القطاعات التي تحد هذه الأنظمة من الاستثمار فيها، ومن ثم تؤدي إلى مشكلة في العرض من السلع في هذه القطاعات. مثال على هذه القطاعات، ما يشهده قطاع الأسمنت حاليا من طلب مرتفع نتيجة النمو الاقتصادي الذي تشهده المملكة، ونتيجة للمشاريع الجديدة التي ينتظر أن تسهم بطلب عالٍ جدا على الأسمنت. المشكلة تتكرر كلما مرت علينا طفرة في قطاع البناء، سواء بزيادة مشاريع الدولة، أو بزيادة الحوافز المشجعة لقطاع الإسكان، والبناء والتشييد بشكل عام. ومع ذلك فإن الزيادة في العرض من الأسمنت بزيادة المصانع المنتجة له، لا تزال دون المستوى المطلوب. السؤال لماذا مع وجود هذا الكم من الطلب عليه؟ الإجابة تكمن في آلية الترخيص لمصانع الأسمنت، ففي حين ترخص وزارة التجارة لمصانع الأسمنت، وبناءً عليه تصدر القرارات المتعلقة بذلك، تظل مشكلة تحديد مواقع بناء هذه المصانع منوطة بوزارة البترول والثروة المعدنية. لذلك، تسمع الكثير عن إصدار رخص جديدة لمصانع الأسمنت، لكن تسمع القليل عن إنشاء وتشغيل الجديدة منها، على الرغم من وفرة رأس المال الراغب في الاستثمار فيها. وقد يكون لوزارة البترول والثروة المعدنية أولوياتها، التي قد لا يكون قطاع الأسمنت أحدها، لكن يجب أن يراعى أيضا ما تؤدي إليه هذه الأولويات من نقص في العرض من سلعة رئيسة مهمة جدا للاقتصاد كالأسمنت. قطاع الأسمنت أحد الأمثلة على دور التشريعات التي تسنها بعض الجهات الحكومية والتي قد تؤثر على المؤشرات الاقتصادية الكلية الرئيسة، كالتضخم ونمو القطاع غير النفطي، من خلال خلق ما يسمى بعنق الزجاجة في هذه القطاعات الحيوية. هذا يجعلني أتساءل عما إذا كنا نحتاج إلى إطار تشريعي وآلية تنفيذية تحد من قدرة أي جهة حكومية على الحد من العرض من أي سلعة باستخدام التشريعات الاستثمارية المنظمة لها. أعتقد أننا في حاجة فعلية إلى مثل هذا الإطار على أن يكون قائما على أساسيات السوق، فإذا كان هناك من يرغب في الاستثمار ومستعد لدفع التكاليف المترتبة عليه، فليكن ذلك، وإلا فسيؤدي ذلك إلى تكرار حدوث مشهد (عنق الزجاجة) مرات أخرى.
إنشرها