Author

البنك والمصنع

|
في ظل العولمة الإلكترونية تتوضح الفوارق الشاسعة بين البنك وبين المصنع. فهما مؤسستان اجتماعيتان لكن رأسمال المؤسسة الصناعية الذي يضم، إضافة لرأسمالها النقدي، كوادر بشرية مؤهلة وآلات ومعدات التي تتبع تقاليد تشغيلية، إضافة إلى الأرض التي تقوم عليها المنشأة فهي تعد من ضمن الأصول الثابتة التي يمكن تسييلها والتصرف بها عند الحاجة. أي أن المصنع يحتفظ بكل العناصر التي يحتاج إليها العمال والموظفون لأداء مهامهم الإنتاجية، أما البنك فهو تجسيد لرأس المال اللامادي الذي يأتي على شكل نقود. كما أنه يعمل على اجتذاب رؤوس الأموال ليعيد تشغيلها والتربح من فوائد إقراضها. إذاً موجوداته هي أساسا ما يعطيه الآخرون، ويكفي أن ينقلها إلى مكان آخر حتى تختفي كل آثارها ولا يبقى في المكان إلا صحراء قاحلة. إنه أشبه بالقول إن المصنع ينتمي إلى الواقع المادي الملموس الصعب التنقل. بينما البنك يعيش بين أحضان العالم الافتراضي الذي يسهل فراره عابرا فوق فضاءات الحدود. فكل ما يستلزمه الأمر كبسة زر لتظهر الأموال في أماكن أخرى. كما أن نجاح رأس المال هذا أو عدمه غير مرتبط عملياً بمؤشرات التقدم العام الحقيقية، مثل نمو إنتاجية العمل المادية، وحال الوسط الاجتماعي المحيط، وصحة السكان ومقدرتهم على العمل. المصرف هو عبارة عن "واقع افتراضي" غير متجذر في الواقع الاجتماعي المحيط فأعماله تحقق ذاتها في فضاء افتراضي لا يسري فيه مفعول قواعد الحياة الطبيعية، ولا يأبه بالعوامل المناخية أو السياسية. بينما المنتجات والبضائع لا يمكن لها أن تنتقل من مكان إلى آخر أو تسافر عبر الحدود قبل أن يتم تصنيعها حتى لو عرضت نماذجها على الإنترنت أو على صفحات الجرائد والمجلات. فوجودها مرهون بوجود المصنع أو الأرض. من ضمن السيناريوهات التي تتواكب مع زيادة عدد المصارف الخاصة، وكما حصل في مصر وتونس، أن تلجأ البنوك الحكومية والعامة إلى تسهيل عمليات الإقراض لعدد من رجال الأعمال تحت ذرائع مختلفة. اللافت أن القروض تعطى لهؤلاء بكل سخاء اعتمادا على السمعة وطمعا بالعمولات. وهكذا تتشكل الثروات الطائلة لطبقات المقامرين الماليين الذين يراهنون بأموال القروض طمعا بالأرباح من فرق الأسعار وبانتقالها من مكان إلى مكان تفقد تلك الأموال صلتها بالأرض التي خرجت منها ولا تراعي أي التزامات بمشاريع تنموية. ومن ثم تحدث الأزمة ويتوقف المقترضون عن السداد ويباع البنك لحفنة من الناس بأبخس الأثمان، وتتحمل ميزانية الدولة تلك المديونيات وتسقطها عن مالكي البنك الجدد. بحجة أنهم أنقذوا سمعته وجنبوه إعلان الإفلاس.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها