ثورة قراءة الكتب
أول كلمة نزلت من السماء إلى الأرض على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي اقرأ؛ ثم اقرأ ثم اقرأ ثم (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم).
فأول آية نزلت من السماء إلى الأرض كانت مفتتحةً بكلمة (اقرأ). بل أقسم ربنا جل سبحانه بـ(والقلم وما يسطرون).
وكل هذا دليل قاطع على مكانة القراءة في القرآن الكريم، فهي على مر العصور كانت ولا زالت محزناً لحفظ العلوم، وكذلك مفتاحاً يخرج ينابيع العلوم لتسيل على مر العصور.
ومهما اختلفت طرق الكتابة من قديم الزمان إلى هذه الساعة تظل الآثار شاهدة على أن الكتابة كانت حاضرة في جميع الحضارات التي شهدها التاريخ.
ويرجع فقد أغلب المخطوطات وجميع الكتابات إلى أعظم حادثتين شهدتهما البشرية.
الأولى: كانت عند حدوث الطوفان الذي أغرق الأرض في زمن نبي الله نوح - عليه السلام - حتى تقول الروايات بأن نبي الله نوح - عليه السلام - قد حمل جثة نبي الله آدم - عليه السلام - وزوجته حواء في تابوت حتى لا يؤثر فيهما الطوفان ويجرفهما، مما يعني ويؤكد أن جميع المخطوطات التي خطتها أيادي قوم نوح ومن ورائهم من الأمم التي سبقتهم منذ أن خلق الله الأرض قد اندثرت وذهبت مع هذا الطوفان العظيم الذي ذكره الله في كتابه. والله أعلم.
الثانية: كانت إبان غزو التتار بلاد العلم الإسلامي حيث أغرق هؤلاء الهمج المتخلفين الكتب في دجلة وجعلوها جسراً يمشون عليه، ولكم أن تتخيلوا حجم الكتب التي رميت في نهر دجلة حتى كونت جسراً عظيماً يمشي عليه هؤلاء الهمج بخيولهم وجمالهم ورجالهم وأسلحتهم .. بلا شك أن عشرات الملايين من الكتب قد رميت في هذا النهر الذي تحول ماؤه الصافي إلى اللون الأسود البهيم بسبب تحلل الحبر من الجلود بفعل الماء، فقد كانت الجلود هي الوسيلة المستخدمة للكتابة في ذلك العصر.
بالإضافة إلى هاتين الحادثتين أود إضافة حوادث النصارى الصليبيين في حملاتهم الصليبية على بلاد المسلمين حيث أحرقوا ثلاثة ملايين كتاب في الشام في مكتبة طرابلس اللبنانية، وكذلك أحرق النصارى الصليبيين مليون كتاب من مكتبة غرناطة في الأندلس في أحد الميادين العامة.
حتى غزو الاتحاد السوفيتي الشيوعي الأخير على بلاد إسلامية مثل القوقاز والتي تقارب مساحتها مساحة أوروبا كلها، إلى غيرها من الدول الإسلامية والتي كانت بالطبع؛ تحتوي على كتب ومخطوطات هي أيضاً نالت نصيباً من الحرق؛ حيث أحرق أكثر من (10) آلاف كتاب هذا الذي أحصي، وإن كنت على يقين تام لا شك فيه أن أضعاف أضعاف هذا الرقم قد أحرق وأبيد على أيدي هؤلاء الشيوعيين المجانين.
بل حتى في حرب حزب اللات الأخيرة مع إسرائيل؛ تم تدمير مستودعات دار ابن حزم، فاحترقت عشرات الآلاف من الكتب الإسلامية والعلمية والثقافية؛ وللأسف لم يخرج ولو تقرير واحد لحماية كتب العرب والمسلمين.
دعونا نقفز من هذا التاريخ كله، وهذه الحرائق المفجعة كلها للكتب والمكتبات الإسلامية إلى أعظم حريق تواجهه المكتبات الإسلامية في جميع الدول الإسلامية بلا استثناء.
إن أعظم حريق يلتهم المكتبات الإسلامية هو في هذه السنوات، بل وفي هذه الأيام، بل للأسف ما زالت جمرته ملتهبة لم تتحول إلى رماد!! فهل عرفتم ما هو هذا الحريق؟ وما أسبابه؟
إن إحراق الكتب الذي أعنيه هو تركها حبيسة المكتبات والأدراج بدون قراءة ولا اطلاع؛ فكون هذا الكتاب قد احترق يعني أنه لن يقرأ، وكون الكتاب مغطى بالغبار في المكتبات العامة والخاصة والتجارية يعني أن نوعاً آخر من الحرائق يلتهم الكتب ويمنع من الاستفادة منها .. فهل عرفتم الآن عظم مصيبة اغتيال (اقرأ) من عقول الشباب والفتيات، بل حتى من براءة الأطفال.
للأسف؛ لاحظ الفرنسيون خللاً أدى إلى هبوط يسير في نسبة القراءة عند الشعب الفرنسي فنظموا برنامجاً أطلقوا عليه اسم " جنون المطالعة " نزل فيه وزير الثقافة وكبار المؤلفين الفرنسيين وكل المعنيين بشؤون الثقافة إلى الشوارع والساحات العامة والحدائق و فتحوا أبواب المكتبات العامة على مصراعيها أمام الجماهير وأخذوا يقرؤون لها و يحثونها على القراءة في محاولة لرأب الصدع وسد الخلل.
كل هذا يجري في كل دول العالم المتحضر؛ دائماً يغرسون القراءة في عقول أطفالهم منذ الصغر، حتى تصبح مثل الدماء التي تروي شريانهم.
ونحن اليوم؛ تحولنا من أمة (اقرأ) إلى أمة (مباريات) لا نعرف للكتاب وزناً أو قيمة إلا ما ندر.
فإن سألت عن أغلب أوقات شبابنا وجدتها في متابعة أخبار الكرة والفن، وإن بحثت عن أغلب أوقات فتياتنا وجدتها في المسلسلات والموديلات.
حتى وإن خرج شبل من أشبالنا وبرع في تخصص معين، للأسف؛ الكثير منهم ليس لديه ثقافة القراءة والإطلاع، فهو معتاد منذ صغره على المنهج الروتيني، والكتاب المدرسي، وليس لديه خلفية أخرى.
إن أمة لا تقرأ لن تصنع، وأمة لا تصنع لن تتقدم، وأمة لا تتقدم لن تفلح.
فيا شباب أمتنا السعيد بثورة مصر وتونس ألا تريدون أن نثور على الكتاب ثورة سلمية مئة بالمئة، فنقرأ كل شيء .. نقرأ القرآن أعظم كتاب، نقرأ التاريخ، نقرأ الأدب، نقرأ الجغرافيا، نقرأ العلوم، نقرأ كل ما طالته أيدينا، ونشتري كل ما سمحت به أموالنا من الكتب والمصنفات.
إن أمتنا الإسلامية لن يرجع لها تاريخها إلا بحضارةٍ تتغلب على جميع الحضارات الموجودة، ولن تتغير الحضارات بشعارات أو حروب لا تدوم بل بعلوم وثقافات وعقيدة وكل هذا لن يكون إلا بإذن الله ثم بمصاحبة الكتاب، ومسامرة القرطاس، والسهر لا على الأفلام والمسلسلات بل على الكتب والأبحاث.
فإن كنت طبيباً ففتش في كتب الطب.
وإن كنت مهندساً ففتش في كتب الهندسة.
وإن كنت طالباً فكون ثقافةً شاملة لك؛ بدءً بكتب العقيدة الصحيحة، ثم بالتاريخ، والأدب، وسائر العلوم.
أريد أن أشاهد الكتب في كل مكان، في المكاتب، في السيارات، في القطارات، في أماكن الانتظار، في الجلسات العائلية، في الاجتماعات المختلفة.
أريد أن تكون القراءة هي الوجبة الرئيسة لجميع المسلمين في العالم.
وللجميع أقولها بكل وضوح: من أراد الدنيا فعليه بالقراءة، ومن أراد الآخرة فعليه بالقراءة.
وأتحدى أي باحث أو مؤرخ أن يثبت لي بأن هناك حضارة إنسانية مشرفة قامت بدون أن تقدر القراءة والكتابة، ويشيع فيها التدوين.. لا تتعبوا أنفسكم .. فلن تجدوا!!
لأن الحضارة التي لم تدون حروف أو رموز أو كلمات لن تعرف، ولن يبقى لها تاريخ، وسيمحى ذكرها كسعفة نخل احترقت بلحظة.
بل؛ إن عظمة الحضارات وبقائها هو بِعظم تقديرها للقراءة والكتابة اللذان يعدان المفتاح الرئيسي لنشر وحفظ كافة العلوم إلى كافة العصور.
ولا أدل على ذلك من العصور الإسلامية الثلاثة الزاهرة .. (الأموي، والعباسي، والعثماني).
ختاماً: أقول عن نفسي لا فخراً ولا رياءً؛ بل لإلهاب النفوس وتحفيزها على القراءة، فكاتب هذا السطور كاد أن يفقد بصره بسبب كثرة قراءة الكتب، وعملت له عملية بصرية ليرجع الله له بصرة كما كان، ثم رجع إلى سابق عهده بقراءة الكتب فبدأ بصره يرجع ويضعف ليهدده بوقف القراءة وإلا كان نور هاتان العينان في خطر.
إلا أن كاتب هذه السطور يؤمن بأن ذهاب نور البصر بسبب القراءة أمر يستحق التضحية، ويدعوا إلى الشجاعة لا الخوف؛ فالعمر كله ذاهب، والجسد كله يفنى، ولكن هناك فرق بين من يقابل ربه بعينين شاهدتا آلاف المسلسلات، والأفلام، والقنوات، ولم تريا كتابه القرآن إلا ساعات في سنوات، ولم تكتحلا بالقراءة من العلوم والمصنفات إلا كما يأخذ المخيط من الماء إذا أدخل البحر!!.