Author

حول السياسة وحرية الرأي في الإسلام

|
هناك اعتقاد، لدى بعض الحُكَّام، أن كلمة "السياسة" تعني: الكذب على الجماهير، وتضليلهم بالخطب الرنانة ومعسول الكلام، والوعود المؤجلة.. وهذا رأي لا أساس له من الصحة، والدليل على ذلك: "آية الحُكَّام" في كتاب الله؛ وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، كذلك، في الحديث: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (متفق عليه). بل، من المعاني العلمية للسياسة؛ أنها: فن حُكم الجماعة، والحُكم لا يعني مجرد الرئاسة، بل يعني أساساً الإدارة، إدارة الخدمات والإنتاج، وتحقيق المطالب المُحقة للمواطنين، وحل مشكلاتهم، وغير ذلك.. ويلتقي هذا التعريف الجزئي، مع المعنى العام "للسياسة" في الإسلام: كعلم إدارة شؤون الرعية ورعايتها، وإقامة الدين والحدود.. وأن الحاكم مسؤول تجاه الرعية التي بايعته في الدنيا، ومسؤول أمام الله الذي يُراقب أعماله، ففي الحديث: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ..." (متفق عليه)، هذا هو المعنى الإجمالي لكلمة "السياسة": خدمات وإنتاج، وإدارة شؤون الرعيّة والمجتمع.. والخدمات تعني: توفير كافة أنواع الرعاية الاقتصادية، والكفالة الاجتماعية.. وأي خدمات عامة أخرى: من تمهيد للطريق.. إلى تأمين الناس في أرزاقهم وحياتهم وعملهم.. إلى حماية الحدود.. أما الإنتاج، فأهم ما يعنيه: حُسن استثمار أموال الدولة لرفع مستوى الدخل، وتنمية الاقتصاد الوطني، وغير ذلك.. وإذا كان الغرب قد بنى سياسته على التفريق بين الديني والدنيوي: "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فإن الإسلام جعل الأمر كله لله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، بالتالي، لا تكتمل العبادة بغير صلاح السياسة، إذ إن الإسلام لا يفرِّق بين العمل الدنيوي والعمل الديني، أو بين السياسة والدين، والقيادة والعبادة.. لا بل، يربط الإسلام بين الصلاة، التي هي فريضة تعبدية، وبين الزكاة، التي هي فريضة اقتصادية، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي ممارسة سياسية، وكل عمل يؤديه الحاكم المسلم، تكون فيه خدمات وإنتاج ورعاية، هو سياسة، ويُعتبر عبادة، وله عليه صدقة.. ومن الأمثلة الحية التي تربط بين السياسة، بهذا المعنى، والدين، وتُبيِّن شعور الحاكم بالمسؤولية، تلك الكلمة الخالدة، التي قالها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: "والله لو أن بغلة في العراق تعثرت لخشيت أن يسألني الله عنها، لمَ لمْ أُسو لها الطريق"! ليبرز السؤال: إذا كان الإسلام يأمر الحاكم بممارسة العمل السياسي بهذا المفهوم، فهل يكفل حرية الرأي السياسي؟ يرى الدكتور أحمد الفنجري: أن بعض الناس يقولون إن الدين بطبيعته عبارة عن أوامر محدَّدة ونصوص منزَّلة، وأن الجدل فيها يعتبر لغواً باطلاً، ويخرجون من ذلك بأن الإسلام لا يقبل النقاش أو المعارضة في أوامره، طبقاً للقاعدة الشرعية: "لا اجتهاد مع النص"، ولذلك، لا يمكن أن تكون هناك حرية رأي في ظلال الدين.. ليجيب الفنجري: إن الرد على ذلك بسيط وواضح، فجميع دساتير العالم تشتمل على مبادئ رئيسية لا يمكن المساس بها، أو مناقشتها، ففي الدول الشيوعية لا يمكنك أن تنادي بالرأسمالية، وفي الدول الرأسمالية لا يمكنك أن تنادي بالشيوعية، وكذلك في الإسلام لا يمكنك الدعوة إلى الكفر، أو التشكيك في الله، أو منع الفروض وإباحة المحرمات، لأن هذه من الأمور الرئيسية التي تحرص كل دعوة أو مبدأ على صيانتها، لأن محاولة هدمها تعتبر محاولة لهدم المبدأ من أساسه. أما حرية الرأي، بمعنى المطالبة بالحق، والشكوى من الظلم، وفي أي شأن من شؤون الدولة والحياة المدنية، لم ينزل بها نص صريح، فإن الإسلام يسمح بها، ولكن، بعد إدراك معناها الأدبي والشرعي، وحدودها، وعلى قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار"، والتزام جماعة المسلمين وإمامهم، وغير ذلك من الشروط التي وضعها العلماء لهذه الحرية الإسلامية، المختلفة عن الغوغائية والديماغوجية والإباحية التي يدعو إليها الغرب والمُتغربين. فالإسلام، إذاً، يسمح باختلاف الرأي في أمور الدنيا التي لم يُنزَّل فيها حُكم صريح، كما يسمح أيضاً بالاجتهاد في فَهم النص وتفسيره، لا بل ويأمر بـ "النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" (البخاري).
إنشرها