Author

شركات حكومية من أجل النمو والتوزيع

|
النمو الاقتصادي أحد أهم العوامل والمنطلق الأساس في معالجة الكثير من المشكلات والتحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تواجهنا وتواجه أي مجتمع آخر. معدل النمو ضرورة تحتمها الزيادة السنوية للسكان وتغير نمط الاستهلاك، وبالتالي فإن العمل على مقابلة الزيادة في الطلب على السلع والخدمات من ناحية، وتوفير الوظائف وتحسين مستوى المعيشة من جهة أخرى، يكتسب أولوية قصوى في الاستقرار الاقتصادي والسياسي. لكن ثمة مشكلة خاصة باقتصادنا الوطني تتعلق بموضوع النمو، وهي أن اقتصادنا ريعي، وهذا يعني أن الدخل الوطني لا يعكس بالضرورة الإنتاج الفكري والعضلي للأفراد في المجتمع، إنما في معظمه يعكس مستوى أسعار النفط في السوق العالمية. هذا الأمر له تبعاته السلبية على ثقافة الإنتاج والعمل في المجتمع؛ إذ إنه يضعف العلاقة بين الإنتاج والدخل، وفقدان هذا الرابط بين الدخل والإنتاج يولد اعتقادا لدى الأفراد بأن بإمكانهم الحصول على أكثر شيء بأقل جهد، أي بمعنى أكثر وضوحا، يخلق حالة من الكسل والتراخي. وعلى مستوى التنظيمات الإدارية يدفع هذا الوضع نحو الإغراق في الإجراءات الداخلية الروتينية بغض النظر عن التأثير النهائي، وهذا ربما يفسر ضآلة تأثير الإنفاق السخي للدولة. أمر آخر على درجة كبيرة من الأهمية وهو تواضع القاعدة الصناعية والتركيز على مصانع استهلاكية تعتمد على العمالة الأجنبية الرخيصة، ما يبطئ النمو الاقتصادي الحقيقي من جهتين، الأولى صناعات استهلاكية لا تسهم في تطوير الاقتصاد الوطني وترتقي بمستوى الإنتاج النوعي التحويلي. والأمر الآخر تسرب أموال كثيرة من الاقتصاد الوطني عبر تحويلات العمالة الأجنبية؛ ما يعني فقدان جزء من الاستثمار الحكومي، وبالتالي انكماشه وتفويت فرصة إعادة استثماره لعدة دورات اقتصادية. هذا الوضع الاقتصادي يفتقد بناء الخبرات وتطوير الأبحاث والنهوض بالصناعة على أساس معرفي وتقني. وربما تكون تلك هي العقبة التي يجب العمل على تجاوزها إذا ما أردنا تحقيق تقدم حقيقي في مجال الصناعة على وجه الخصوص والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بوجه عام. وأخشى أن غياب استراتيجية وطنية للـ 50 سنة المقبلة واقتصار التخطيط على المدى القصير والمتوسط عبر خطط خمسية مكررة لا يُلتزم بها، السبب وراء التركيز على الإجراءات والمشاريع دون الالتفات إلى الأداء والتأثير النهائي؛ ما يؤدي إلى رداءة بعض المشاريع وتدني مستوى الخدمات كما ونوعا؛ لذا فبعض المشاريع قد لا تكون مطلوبة اجتماعيا وفي الوقت ذاته رديئة، أي ''حشف وسوء كيلة''. هذا لا دخل له بالنوايا الصادقة من عدمها، ولا يمكن إلقاء اللائمة على طرف أو آخر، فهو لا يتعدى كونه وضعا إداريا متصلا بطبيعة العمل البيروقراطي العام والمركزية الشديدة؛ ما يجعل منه أمرا خفيا لا يمكن إدراكه، وبالتالي يصعب التصدي له بينما يترك ليتحول إلى فساد إداري متجذر ومتداخل في إجراءات وقيم النظام الإداري العام ليكون جزءا لا يتجزأ منه. فالترهل الإداري والجمود والانغلاق جميعها عوائق للأداء المفضي لما ينفع الناس. هناك عمل وجهد دؤوب وإنفاق سخي، لكن دون خدمات مميزة تستجيب بشكل فاعل وكفء للاحتياجات الحقيقة للمواطن، فما زال المواطن يبحث عن الخدمة بدلا من أن تبحث عنه، بل ربما وصل الأمر إلى استجدائها! وإذا كانت المنظمات الحكومية المسؤولة عن القرارات المصيرية والمؤثرة بهذا الأداء الباهت فلا عجب أن يكون مستوى التنمية الوطنية عند هذا المستوى الذي لا يتناسب مع تطلعات القيادة وطموحات المواطنين. ما تتطلبه هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الوطن هو البحث عن آليات جديدة لصناعة القرار العام ليس من أجل زيادة النمو الاقتصادي وحسب، لكن لرفع كفاءة توزيع الدخل والمنافع من الناتج الاقتصادي بحيث تستفيد جميع فئات المجتمع من ثمار العملية الاقتصادية، وبالتالي تحفيزهم ليكونوا أكثر مساهمة في التنمية الاقتصادية وتعزيز انتمائهم الوطني. لقد أثبتت آلية السوق أو على أقل تقدير طريقة فهمنا لهذه الآلية فشلها. فهناك من يرى أن حرية السوق تعني تحقيق المصالح الخاصة برعاية حكومية! فهذه الصناديق الاستثمارية يقتات عليها رجال الأعمال لإقامة مشاريعهم التي لا تضيف الكثير إلى الاقتصاد الوطني، فهي لا تعدو - كما ذكرنا آنفا - في معظمها مصانع استهلاكية أو تجميعية لا يتدخل فيها العنصر الوطني في عملية إنتاجها لا فكرا ولا جهدا عضليا، إنما فقط برأسمال جله من الدعم الحكومي؛ لذا يكون من المستغرب حقا أن يكون هناك نظام لتشجيع الاستثمار الأجنبي من أجل جلب الأموال من الخارج، مع أن المال لا يمثل بالنسبة لنا مشكلة. ما نحتاج إليه في واقع الأمر هو نقل التقنية، التي تزيد من النمو الاقتصادي وتوفر وظائف ذات دخول عالية للمواطنين الباحثين عن العامل. وهذا مرة أخرى، هو نتاج التفكير البيروقراطي وغياب الاستراتيجية الوطنية طويلة المدى ليترك الجميع يعمل، لكن بتشرذم وبنشاز ودون خطة للطريق تنسق فيما بينهم وتحقق الكفاءة والفاعلية للمشروع التنموي. التخلي عن الأسلوب البيروقراطي والتوجه نحو الاستثمار الجماعي عن طريق شركات حكومية تطرح نسبة من أسهمها للاكتتاب العام يحقق أمرين: الأول تطبيق العمل الإداري بناءً على الكفاءة والفاعلية والجدارة والجودة المماثل لأداء مؤسسات القطاع الخاص، وفي الوقت ذاته تكون شركات ذات حجم كبير تستوعب المواطنين الباحثين عن العمل وتحد من تسرب الأموال لخارج الاقتصاد. وهكذا يتحقق النمو الاقتصادي ويتم توزيع منافعه وعوائده على جميع فئات المجتمع بدلا من اقتصار امتيازات الإنفاق الحكومي على النخب في المجتمع. فمن المهم تكبير الكعكة الاقتصادية، لكن الأهم توزيعها بطريقة عادلة وكفؤة. لقد حان الوقت للتفكير جديا في إعادة هيكلة القطاعين العام والخاص لجعلهما يعملان من أجل الجميع، فالقطاع العام يحتاج إلى أن يخفف من المركزية بحيث تمنح مجالس المناطق والمجالس المحلية والبلدية صلاحيات أكبر تمكنها من تنمية المجتمعات المحلية والاستجابة لاحتياجاتها الحقيقية بدلا من الصرف على أسس أولويات بيروقراطية مركزية. أما القطاع الخاص فيلزم أن يُربط الدعم الحكومي بمدى إحرازه تقدما على صعيد تطوير الصناعة ذات التقنية العالية وتوفير وظائف بمعايير تتناسب مع خريجي الجامعات. إنشاء شركات حكومية على غرار ''سابك'' في مجالات متعددة مثل المقاولات والمشاريع المدنية ربما تكون إحدى الآليات الفاعلة لتحقيق النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل بكفاءة.
إنشرها