Author

الاستفتاء وتحديات المرحلة الانتقالية في مصر

|
يمكن القول بأن الاستفتاء الشعبي الذي أجري في مصر يوم 19 آذار (مارس) 2011 على التعديلات الدستورية يمثل الخطوة الأولى على طريق الممارسة الديمقراطية الحقيقية في مصر ما بعد مبارك. وعلى الرغم من حالة الانقسام الحادة بين صفوف النخب السياسية في مصر إزاء الموقف من دستور عام 1971، فإن الأغلبية الصامتة، ولا سيما في المناطق الريفية والنائية، وكذلك جماعات الإسلام السياسي، استطاعت أن تحسم الأمر لصالحها لتأتي النتيجة (بنعم) على التعديلات الدستورية، وذلك بنسبة 72 في المائة تقريبا من جملة الأصوات الصحيحة في الاستفتاء. وبغض الطرف عن الأجواء الحماسية التي صاحبت عملية الاقتراع التي اتسمت بالنزاهة والشفافية، وهو أمر لم تعهده مصر طيلة الـ60 عاماً الماضية، فإن ثمة ملاحظات كاشفة لا بد من الإشارة إليها لفهم المسارات والمآلات في مصر المحروسة بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) العظيمة. قراءة في دلالات الاستفتاء وفقاً للنتائج التي أعلنتها اللجنة القضائية المشرفة على الاستفتاء برئاسة المستشار محمد عطية، فإن نحو 41 في المائة فقط من جملة 45 مليون مصري يحق لهم الانتخاب هم الذين أدلوا بأصواتهم في الاستفتاء على التعديلات الدستورية. يعني ذلك ببساطة شديدة أن نحو 59 في المائة من المواطنين الذين يحق لهم التصويت عزفوا عن المشاركة في الاقتراع العام وفضلوا البقاء بعيداً. صحيح أن هناك نحو ستة ملايين مصري يعيشون في الخارج حرموا من حق التصويت لأسباب فنية وتقنية على حد قول المسؤولين عن إدارة الانتخابات في مصر، فإن ذلك لا يمنع من القول بوجود أغلبية صامتة لا يستهان بها. يدفع ذلك إلى التوكيد على عدد من الملاحظات المهمة. الملاحظة الأولى تشير إلى القدرة التنظيمية الهائلة لجماعة الإخوان المسلمين، ولتيارات الإسلام السياسي في مصر عموماً، إذ بينما لجأ شباب الثورة إلى عالم الإنترنت لمعارضة التعديلات الدستورية، ودفع الجماهير للتصويت بالرفض، وذلك عبر وسائل الفيسبوك والتويتر ورسائل الهواتف النقالة، فإن ''الإخوان المسلمين''، ومن سار على دربهم من الإسلاميين لجأوا إلى ما يمكن أن نسميه ''الناس بوك'' أي التعامل المباشر مع الجماهير في مختلف محافظات الجمهورية. والملاحظة الثانية تشير إلى عجز القوى والأحزاب السياسية التقليدية، وعدم مقدرتها على حشد التأييد الشعبي لمطالبها السياسية، وقد كشفت نتيجة الاستفتاء الحجم الحقيقي لهذه القوى التي أصبح بعضها مجرد صوت إعلامي مسموع فقط عبر الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى. ومن الطريف أن هذه القوى السياسية باتت تعلق فشلها في حشد التأييد الشعبي على هاجس ''الخوف من الإسلاميين''، وهو الشيء نفسه الذي كان يستخدمه نظام مبارك لتبرير شرعيته في السلطة. الملاحظة الثالثة تطرح إشكالية المشروعية الثورية والشرعية الدستورية في مصر، إذ يرى البعض أن المأزق المصري الراهن يتمثل في وجود شرعية ثورية أدت إلى ''إعدام'' دستور 1971 لتأسيس نظام ديمقراطي جديد تماماً، وهو منطق الرافضين للتعديلات الدستورية، والشرعية الثانية هي التي جاء بها الاستفتاء الشعبي، وأكدت المضي قدماً في إجراءات نقل السلطة للمدنيين، وفقاً للخريطة الزمنية التي اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة التي آلت إليه الأمور في مصر بعد تنحي الرئيس مبارك. تحديات إدارة المرحلة الانتقالية إن التعديلات الدستورية التي تمت الموافقة عليها ليست نهاية المطاف، وإنما هي تؤسس لبداية مرحلة انتقالية حقيقية يفترض أن تشهد اتخاذ إجراءات دستورية وقانونية وسياسية مهمة لتنهي حكم العسكر في مصر. ولعل الخطوة الأولى هنا تتمثل في رفع القيود عن الأحزاب السياسية، فقد كبل نظام مبارك النشاط السياسي بعديد من القيود والقوانين المعوقة لحرية العمل السياسي. وقد أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن تأسيس حزب العدالة والحرية، كما أعربت جماعات وقوى ليبرالية ويسارية أخرى عن عزمها إنشاء أحزاب سياسية جديدة، وهناك تخوف من جانب القوى السياسية العلمانية من هيمنة الإسلاميين على الحياة السياسية في مصر بعد الثورة. أما الخطوة الثانية في المرحلة الانتقالية بعد الاستفتاء فتتمثل في الإعلان عن مواعيد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. وثمة جدل قانوني وسياسي بين القوى السياسية المصرية حول أي الانتخابات تسبق الأخرى، هل نبدأ بالرئاسية أم البرلمانية؟. وطبقاً للخطة المقترحة من قبل العسكريين والتي أكدها الإعلان الدستوري الصادر في 30 آذار (مارس) يتعين إجراءات الانتخابات البرلمانية أولاً، حيث يتم تشكيل مجلس تأسيسي من قبل أعضاء البرلمان المنتخبين لوضع دستور جديد يتوقع أن يعرض على الاستفتاء العام في غضون سنة على الأقل من تشكيل المجلس التأسيسي. وعلى أية حال، فإن كلا الطريقين، سواء الرافض للتعديلات الدستورية أو المؤيد لها يؤديان إلى نفس النتيجة وهي وضع دستور جديد في مصر يتخلص تماماً من إرث المرحلة السابقة على ثورة يناير. وتظل مسألة إلغاء قانون الطوارئ الذي عمل به نظام مبارك منذ عام 1981 تشكل أولوية ثورة كبرى. وطبقاً لتصريحات أحد أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإنه من المقرر انتهاء العمل بقانون الطوارئ بعد نحو ستة أشهر ريثما تستقر الأمور، وتهدأ الأوضاع في مصر. وتشير تطورات الأحداث في مصر منذ رحيل مبارك إلى هيمنة عدد من الأساطير التي تشكل تحديا خطيراً أمام التحول نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية في مصر. ولعل أخطر هذه الأساطير يتمثل في القول بوجود ثورة مضادة تحاول إعادة الأمور في مصر إلى الوراء. صحيح أن هناك بعض القوى التي قاومت التغيير الثوري حيث إنها ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالنظام السابق إلا أنها لا تستطيع الوقوف في وجه هذا الطوفان الثوري العارم الذي لم تشهد له مصر مثيلاً منذ عقود طويلة. أما القول الزائف الثاني فهو يشير إلى ''فزاعة'' الإسلاميين، وأنهم سيسيطرون على المشهد السياسي المصري. وذلك قول مردود عليه، إذ بالرغم من قوة البناء التنظيمي للإخوان فإنهم لا يتمتعون بأغلبية شعبية تسمح لهم الانفراد بالسلطة. إن المصريين يحلمون دائماً بتحسين أوضاعهم الاقتصادية والقضاء على الفساد ولا يميلون بطبعهم إلى التشدد أو التطرف الديني. ولعل ثالث هذه الأساطير يتمثل في الخوف من عودة الحزب الوطني وسيطرته على الانتخابات التشريعية القادمة في مصر. وذلك قول عجيب حيث دأبت الأحزاب والقوى السياسية قبل الثورة على القول بضعف وهشاشة الحزب الحاكم في مصر والقول بأنه اكتسب الدعم والتأييد من زواجه بالسلطة. فهل يعقل بعد إلغاء جميع المزايا التي حصل عليها وبعد تشويه سمعته أن يكسب أغلبية انتخابية؟ لا أظن أن مثل هذا القول يستند إلى منطق تحليلي سليم. الحاجة إلى توافق وطني إن ما يثير القلق في نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية هو ظهور حالة من الاستقطاب السياسي بين النخب المصرية. وقد اتجه البعض إلى استخدام مصطلحات قد تدفع إلى توجيه رسائل لقوى خارجية مثل القول بسرقة الثورة من قبل الإسلاميين أو طرح مسألة المادة الثانية من الدستور التي تؤكد مرجعية الشريعة الإسلامية، وأظن أن محاولة التوظيف السياسي للدين هي عودة إلى نفس الممارسات القديمة التي كان يقوم بها نظام مبارك. وبدلاً من اللجوء إلى وسائل الإعلام لادعاء البطولة السياسية واتباع سياسة الصوت العالي يتعين على الجماعات والقوى السياسية الجديدة أن تمارس السياسة من مكانها الصحيح. فكثير من الأحزاب السياسية نشأت تاريخيا خلال الانتخابات أو قام بتأسيسها أعضاء في البرلمان. وعليه، فإن القول بتأجيل الانتخابات حتى تستطيع هذه القوى تنظيم صفوفها واكتساب التأييد الجماهيري يدعو إلى التساؤل والاستفهام، ألا يعطي هذا الوقت فرصة أكبر للقوى الإسلامية الأكثر تنظيما على كسب مزيد من الأتباع والمؤيدين؟! نستطيع القول بأن مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية في مصر يتطلب بناء توافق وطني عام والبعد عن سياسة الانقسام والاستقطاب. وعليه، فإن مصر في حاجة إلى رئيس ''توافقي'' يحظى بقبول شعبي عام يستطيع أن يدير دفة البلاد في هذه المرحلة الحرجة ليصل بها إلى بر الأمان. ولا أعتقد أن الأشخاص الذين أعلنوا نيتهم الترشح لهذا المنصب المهم، على الرغم من كفاءتهم المهنية والعلمية، يحققون شروط هذا التوافق. وذلك هو التحدي الأكبر. هل يعقل أن يحكم مصر مرة أخرى رئيس في سن التقاعد؟ إن شباب الثورة الذين غيروا وجه مصر الحديثة في حاجة إلى من يعبر عن طموحاتهم وأمانيهم في بناء مصر فتية ديمقراطية، ومع ذلك يبقى درس الاستفتاء العام على التعديلات الدستورية في حاجة إلى فهم ودراسة، فهناك أغلبية كبيرة قد تكون نائمة أو بحاجة إلى من يوقظها، ليس على صفحات الـ''فيسبوك''، وإنما في الحقول والقرى والنجوع والمناطق المصرية النائية. إنها كتلة انتخابية هائلة تستطيع أن تحدد مسار مصر بعد الثورة، ولا أظن أن مجرد إجراء انتخابات عامة حتى ولو كانت حرة ونزيهة يعني الوصول إلى الديمقراطية الكاملة. إننا نتحدث عن عملية ديمقراطية مستمرة، وقد تشهد عقبات وانتكاسات، ولكن من المهم تغيير أنماط القيم والثقافات السائدة، ولا يخفى أن تراث الاستبداد السياسي في مصر موغل في القدم، وأنه في حاجة إلى استئصال مجتمعي قبل الإعلان عن وفاته سياسياً.
إنشرها